صدر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور هيثم الحاج على، ضمن إصداراتها عن الأدباء العرب؛ كتاب “ياقوت المستعصمي..بين بغداد وفلورنسا” لكاتبه الباحث في المخطوطات الدكتور محمود سالم أستاذ فقه اللغات بفلورنسا (إيطاليا).
والكتاب هو بحث وتحقيق وتوثيق لمخطوط أدبي ينتمي أصله إلى القرن السابع الهجري، وهو عبارة عن حكم ومأثورات ونوادر أدبية، كتبها بخط النسخ الجميل رئيس الخطاطين في العراق “ياقوت المستعصمي” بخطٍ بديع وبما يمثل تأصيلاً لفن الخط العربي كأحد الفنون الراقية التي أثرت الجانب الإبداعي للحضارة الإنسانية بعمومها.
وقد سبق المخطوط في كتاب الهيئة المطبوع ثلاث مقدمات، أولاهن للدكتور “علي جمعة” مفتي الديار المصرية الأسبق، والذي يخبرنا أن الكتاب هو بحثٌ جليل عن مخطوط تمت نسبته لياقوت المستعصمي، وقد وُجِدَ هذا الأثر في المكتبة الوطنية المركزية بفلورنسا في نحو تسع عشرة ورقة، وقد بذل الدكتور محمود سالم مجهوداً يُشكَر في وصف المخطوط وفق الأطر والضوابط العلمية متحريًا للدقة بما يحفظ لنا هذا الأثر بالغ الأهمية للخط العربي الذي يمثل نوعًا من الزخرفة الراقية التي هي من تجليات اسم الله “البديع” وبذلك يكون الخط إبداعًا فنيًا ملتزمًا ومستنيرًا؛ خاصةً وأنه قد ساهم في خدمة القرآن المجيد وتقريبه للقلوب.
أما مقدمة مدير المكتبة الوطنية المركزية بفلورنسا “ماريا لتيستيا سباستياني” فيذكر فيها أن الحضارة الإسلامية تميزت عن باقي الحضارات بالخط كتعبير عن قيمة الجمال مضافًا إلى ذلك الرسم التجريدي، نظرًا لحساسية دينية تثيرها النحت عند أغلب علماء المسلمين، ومن بين المخطوطات النادرة ذات الأهمية الخاصة: مخطوط “ياقوت المستعصمي”.
ويشيد مدير المكتبة الفلورنسية بالدكتور محمود سالم الذي اكتشف المخطوط؛ وذلك لأن عمله البحثي رفيع المستوى، ويتسم هو كشخص بالدأب والتعاون.
وأضاف سباستياني؛ المخطوط – رغم جماله وزخرفته- ظل قرونًا عديدة مجهولاً عند المتخصصين في دراسة الخط العربي عامةً، و”ياقوت المستعصمي” على نحوٍ خاص.
ومن الجدير بالذكر أن المخطوط يبدو مطابقًا تمام المطابقة كما تؤكد الدراسات الحديثة التي أجراها الدكتور محمود سالم في أسلوب كتابته الأنيق وزخرفته ذات الجمال النادر مع نصوص أخرى خطها قلم الفنان الشهير ياقوت والتي تحتفظ بها معاهد أخرى غير مكتبة فلورنسا.
وقال سباستياني: إن المكتبة الوطنية المركزية بفلورنسا تتابع باهتمام خاص البحث الذي بدأه محمود سالم بهدف الإحصاء الكامل لنسخ مخطوطات القرآن الكريم في المكتبات العامة الإيطالية، بادئًا من مكتبات فلورنسا، ويهدف المشروع إلى توفير الدوافع لإعادة قراءة المناخ الاجتماعي والثقافي الذي وحَّد ضفتيْ البحر المتوسط، بالإضافة إلى مساهمة لا يمكن إنكارها على صورة مراجع مفيدة للغاية للمجتمع العلمي كله.
ثم تقدم سباستياني بالشكر والامتنان لكل من ساعد في نقل وثيقة “ياقوت المستعصمي” إلى دائرة الضوء، ولكل العاملين في المكتبة الذين كان لجهدهم الدائم والدائب الفضل في تحقيق هذه “الغزوات”.
وقال الدكتور محمود سالم الشيخ أنه لم يبق لتراثنا من المخطوطات العديدة التي نسخها ياقوت بخط يده في القرن السابع الهجري إلا القليل، وأضاف: أنه طالما داعب الباحثين الشك في نسبة هذا المخطوط إلى القرن السابع الهجري، خاصةً لما يحمل من سمات فنية وزخرفية متنوعة، من ناحية الزخارف والتذهيب وحتى نوع الورق المستخدم وصولاً إلى تصميم الجلدة، كما تطرق الشك إلى الزخارف النباتية المتنوعة، الواقعية منها أو المحورة على أرضية مذهبة؛ حيث لم يعهد الباحثون أن يكون هذا الفن من تصميم وإخراج يد عربية، على أن “د.جوفانا لاتزي” مديرة قسم المخطوطات بالمكتبة الوطنية بفلورنسا نبهت إلى أن هذا النوع من الزخرفة تختص به المخطوطات الفارسية في مرحلة لاحقة ومتأخرة نسبيًا وتحديدًا في القرن العاشر الهجري بحيث لا تطابق التاريخ المذكور في نهاية مخطوطة المستعصمي؛ ما يعني باختصار أن المخطوط ليس هو الأصل بل هو تقليد لفن المستعصمي مع إضافات فنية فيها غير قليل من الإبداع والجمالية.
وتكمن أهمية المخطوط في قيمته الفنية إضافة إلى عمق ما فيه من الحكم والمواعظ، والتي من ضمنها:
“إعادة الاعتذار تذكيرٌ بالذنب”
نظر الحسن البصري إلى رجل ذي هيئةٍ حسنة؛ فقال: من هذا؟ قالوا: “ضَرَّاط يكسب المال بضُرَاطِه” فقال: ما طلب الدنيا أحدٌ بما تستحقه سواه.
سئل أحد الحكماء عن غناء النساء والرجال أيهما أحلى؛ فقال: ما جُعِلَت الأغاني إلا للغواني.
وعن علي رضي الله عنه: “بئس الزاد ليوم المعاد العدوان على العباد”.
جديرُ بالذكر أن ياقوت المستعصمي كان روميًا من “الأناضول” قبل سيطرة العثمانيين عليها، وتم بيعه ليصبح من أرِقَاء الخليفة المستعصم، وعند سقوط بغداد كُتبت له النجاة، وأسبغ عليه علاء الدين الجويني – حاكم العراق الجديد الذي عينه الخاقان التتري هولاكو خان- حمايته الشخصية ثم عينه خازنًا في دار الكتب المستنصرية، وكان محباً للفنون والآداب، وحظي بثناء مؤرخيها عليه.