أخبار عاجلة

ما أعجلك بالعشق” لإبراهيم شافعي “دراسة” بقلم د.خالد محمد عبدالغني

التناص الديني والتوحد بالنبي موسى في ديوان “ما أعجلك بالعشق” لإبراهيم شافعي
“دراسة”
بقلم
د.خالد محمد عبدالغني

يحدث التناص مع القرءان الكريم مع الشعراء المعاصرين من ذوي الأصول التقليدية وأصحاب المعارف الدينية العميقة التي تكونت لديهم في مراحل التنشئة الاجتماعية المتدينة كحفظ القرءان في كتاب القرية والاستماع لدروس العلم في المساجد والندوات الخاصة به ، ولهذا سنجد ذلك التناص يفرض نفسه كاستجابة لاشعورية تعكس ذلك التكوين الديني، فإذا ما تتبعنا نشأة التناص intertexte وبداياته الأولى كمصطلح نقدي نجد أنه كان يرد في بداية الأمر ضمن الحديث عن الدراسات اللسانية ( )، وقد وضح مفهوم التناص العالم الروسي ميخائيل باختين من خلال كتابه (فلسفة اللغة) وعنى باختين بالتناص: الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو محاكاتها لنصوص – أو لأجزاء – من نصوص سابقة عليها والذي أفاد منه بعد ذلك العديد من الباحثين( )، حتى استوي مفهوم التناص بشكل تام على يد “جوليا كرستيفا” وقد أجرت استعمالات إجرائية وتطبيقية للتناص في دراستها (ثورة اللغة الشعرية) وعرفت فيها التناص بأنه ” التفاعل النصي في نص بعينه”( ).
أما مفهوم التناص ونشأته في الأدب العربي فنجد أن مفهوم التناص هو مصطلح جديد لظاهرة أدبية ونقدية قديمة فـ “ظاهرة تداخل النصوص هي سمة جوهرية في الثقافة العربية حيث تتشكل العوالم الثقافية في ذاكرة الإنسان العربي ممتزجة ومتداخلة في تشابك عجيب ومذهل”( )، فالتأمل في طبيعة المؤلفات النقدية العربية القديمة يعطينا صورة واضحة جداً لوجود أصول لقضية التناص فيه ، واقتفى كثير من الباحثين المعاصرين العرب أثر التناص في الأدب القديم وأظهروا وجوده فيها تحت مسميات أخرى وبأشكال تقترب بمسافة كبيرة من المصطلح الحديث، وقد أوضح محمد بنيس ذلك وبين أنالشعرية العربية القديمة قد فطنت لعلاقة النص بغيره من النصوص منذ الجاهلية وضرب مثلاً للمقدمة الطللية، والتي تعكس شكلاً لسلطة النص وقراءة أولية لعلاقة النصوص ببعضها وللتداخل النصي بينها ” فكون المقدمة الطللية تقتضي ذات التقليد الشعري من الوقوف والبكاء وذكر الدمن فهذا إنما يفتح أفقاً واسعاً لدخول القصائد في فضاء نصي متشابك ووجود تربة خصبة للتفاعل النصي( )
والتناص في الأدب العربي مر ببدايات غنية تحت مسميات نقدية تناسب عصوره القديمة وعاد من جديد للظهور متأثراً بالدراسات اللسانية الغربية الحديثة كمصطلح مستقل له أصوله ونظرياته وتداعياته، ففي الأدب العربي المعاصر حظي مفهوم التناص باهتمام كبير لشيوعه في الدراسات النقدية الغربية نتيجة للتفاعل الثقافي وتأثير المدارس الغربية في الأدب العربي وكانت دراسة التناص في بداياتها قد اتخذت شكل الدراسة المقارنة وانصرفت عن الأشكال اللفظية والنحوية والدلالية ( )، وتعريفات التناص كما بينها النقاد الحداثيون كثيرة جدًا ومتشعبة وكلها تدور حول جوهر التناص الذي يصب في النهاية في كونه تأثر نص حديث بنص قديم سابق عليه.
وتهدف الدراسة الحالية إلى معرفة أشكال التناص الشعري مع القرآن الكريم، والدلالة النفسية الكامنة في نفس الشاعر من وراء اختياره لذلك الشكل من التناص، من خلال دراسة توظيف الآيات والشخصيات والمفردات الموجودة في القرءان داخل النص الشعري.
ولقد بدأ التناص مع القرءان منذ العنوان “ما أعجلك بالعشق” يتناص الشاعر مع قوله تعالى ” وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَا مُوسَىَ ، قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَىَ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ ” وكأننا أمام توحد مع شخصية نبي الله موسى وعلاقته بقومه وحياته بأرض مصر التي كانت كلها صعاب ومشكلات وسنجد للشاعر قصيدة بعنوان ” أنا والحزن صنوان” يقول فيها
في صُحبةِ الرَّاحِ غَابَ الحُزنُ والأَلمُ
فَامْلأ ْكُؤوسَكَ كَي لا يُوقَظَ النَدَمُ
ممَّا تَغِيبُ؟ أمِن حُزنٍ يُلاحِقُنا؟
تُراكَ تمْحُو الذِي قَد خَطَّهُ القَلَمُ!
قَد هَدّنا الشَّوقُ والأيَّامُ بَاكِيَةٌ
فَمَن يُلبِّي نِداءً صوتُهُ عَدَمُ
ضَاقَتْ بِنَا الدُّورُ لا صَحْبٌ يُشَاركُنا
لمْ يَفْنِ أَحْزَانَنَا دهرٌ وَلا قِدَمُ
وهناك قصيدة أخرى تدل على الوحدة والألم بعنوان “ذكرتك وحدي”
ولقد ذكرْتكَ خالياً في وِحْدتي
قد مزَّقتْ أكباديَ الأسقامُ
ولقد ظننْتُ بأنَّ عمري لحظةً
فِرحَ الفؤادُ وخلْفَها الأوهامُ
وأخيرا هجرة موسى منها والعودة إليها نبيا مرسلا ثم الهجرة النهائية ، وهكذا يتضح أن شاعرنا الذي فر من قريته للعمل بشمال سيناء وهناك بزغ نجمه في الأدب وكتابة الشعر ثم العودة والهجرة للعمل بشرم الشيخ وبزوغ نجمه لأعلى ما يستطيع حتى تنشر له الصحف والدوريات المصرية والعربية المختلفة وتتلقى أشعاره الإذاعة المصرية العريقة “البرنامج العام وإذاعة القاهرة الكبرى”، وشمال سيناء “العريش” وجنوب سيناء “شرم الشيخ” ما هما إلا أرض سيناء المباركة التي كلم فيها موسى ربه وفيها نزلت الرسالة المعجزة ولقد افرد الشاعر واحدة من قصائده للمقارنة بين غار حراء ونزول القرءان وجبل الطور الذي كلم الله سبحانه فيه موسى عليه السلام يقول فيها ” غَار حِراء”
كَيف احتملْتَ النُّورَ في ليلِ الدجى
وسمعْتَ غارَ حِراءَ من نجواهُ
قَبْلَ الرِّسالةِ كانَ يحْمِلُ زادَهُ
سفراً إليْكَ وربُّهُ يرعاهُ
شوْقَ المحِبِّ إلى حبيبٍ غائبٍ
هجرَ الفِراشَ إلى حصىً يرضاهُ
. وهناك قصائد عدة حول النبي محمد عليه الصلاة والسلام ودعوته وهجرته ومحبته ليقول لنا الشاعر في قصيدة ” في عشق أحمد”
هَذَا الطَّريِقُ إلى فُؤَادِكَ مُتْعَبٌ
كَيْفَ السَّبِيِلُ إلِيْهِ في أَصْفَادِي
وَلَقَد سَعَيْتُ إِليْكَ فِيكَ مُرَاغَماً
والشَّوْقُ يَدْفَعُنِي وَكُلُّ وِدَادِي
أَنَا قَد نَزَفْتُ إِلَيْكَ كَلَّ مَدَامِعِي
وقد ظهر التناص أيضا مع حديث نبوي شريف إذ يقول الشاعر ” صلُّوا في رحالكم جائحة كورونا وتوابعها”
مَا زِلْتُ يَا رَمَضانُ عَنكَ بَعِيْدَا
فِردَوْسُكَ المَوْلُودُ عَادَ طَريدا
صَوْتُ المَآذِنِ لم يَزلْ في بَحَّةٍ
رَفَعُوا شِعَارَاً ألْبَسُوهُ جَديِدا

إذا لا غرابة في ذلك التناص الذي يكشف التوحد بالنبي موسى حتى أن الشاعر اهتم بذكر فرعون وما الفرعون الأشهر إلا فرعون موسى إذ يقول الشاعر في قصيدة بعنوان “رسالة إلى أنبياء الشعر”
هذى البلادُ سجينةُ الأحزانِ
ولدت بيومِ ولادةِ الخذلانِ
فرعونُ فوقَ عروشهِ متكبرٌ
مذ تاق ماءُ النهر للجريانِ
ثم نجد في متن الديوان وقصائده مواضع عدة للتناص أيضا منها قصيدة بعنوان “وهن على وهن” وفي العنوان تناص مع قوله تعالى “وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ” وهنا يتضح تعلق الشاعر بأمه التي رحلت مبكرا وتركت في أعماقه جرحا لم يندمل ولعله افرد لها عدة قصائد مهمة في إنتاجه الأدبي حتى الآن تكشف كلها عن ذلكم الحنين والتعلق إذا ما عرفنا أن الشاعر قد رحل أبوه مبكرا أيضا وعكفت الأم على تربية الأبناء ورعاية الأسرة في ظروف شاقة مما يزيد من حب الشاعر لها وتعلقه بها مثلما حدث مع النبي موسى الذي عكفت أمه على رعايته ولا يحدثنا عن دور فعال للأب بل الدور الأكثر أثرا كان لأم موسى وفي ذلك يقول تعالى ” وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ” فنرى الشاعر يقول في قصيدة بعنوان ” إلى أمي”
الرُّوحُ يَا أُمِّي فِداءُ لِقَائِنَا
أَخْشَى عَلى نَفْسِي مِنَ النِسْيَانِ
أَنَا مُذْنِبٌ والذَّنْبُ يَحْجُبُ نُورَهَا
قَسَمَاتُ وَجْهِكِ مَدخَلُ الغُفْرانِ
ويذكر قصيدة أخرى لأمه بعنوان ” إلى أمي” يقول فيها
يَقُولُ النَّاسُ يَا أمِّي
بَأَنَّ العِيِدَ قَد هَلَّا
وَأنَّ اليَومَ يَا أُمِّي
بِشَمْسِ الْوَجْهِ قَد طَلَّا
فِإنْ أَهْدَيتُها قَلبي
فَهْل وَفَّيْتُ؟ لاَ كَلَّا
فَكَم مِن مرَّةٍ أَبْكِي
إذَا مَا الْعُمرُ قَد وَلَّى
نحن أمام شاعر شاب معاصر يكتب القصيدة التقليدية / العمودية وفق اقتدار وإتقان شهده وشهد له الجميع في الحركة الشعرية المعاصرة بالتميز والجودة والجدية على مستوى البلاد العربية ، وقد امتلك لغة خاصة به ومفردات تعنيه وحده وصور شعرية جديدة وجديرة بالتوقف عندها من قبل نقاد الشعر لدينا حتى يمكنه الاستمرار والتقدم لآفاق بعيدة ورؤى مهمة تقدم جديدا للساحة الإبداعية وما تحمله الأيام القادمة لهو المزيد من التقدم والنجاح ولعل رهاني الذي كتبته عنه منذ سنوات قد آتى أكله اليوم والآن دعونا نستمتع بديوانه الراقي الرقيق وموضوعاته الجادة وصوره المفعمة بالإحساس.