بحور المَاضِي الموجة الـ 381 الجزء الثالث
بقلم : أحمد فتحي الجندي
حاولت الشمس أن تُنير سماء اليوم التالي ولكن جيش أشاعتها كان قَد هُزم هزيمةً نكراء في مواجه فرسان جيوش الغيوم السوداء والدُخان فأعلنت خسارتها وباشرت في الصلاة لمن حُجب عنهم ضوؤها ، أصوات طُبول إفريقية تمتزج بصرخات تعذيب الوثنيين وأصوات هدم السرابيوم ، وحرق مكتبة الإسكندرية بتنفيذ الأسقف ثيوفيلوس وبأمر من ثيودوسيوس الأول ، عزفت النُجوم نغماتٍ حزينة عالية من أله “الكمان” لتُشيد بحزنها علي ما كان يحدث حتي وإن كانت لا تري ولكنها شعرت بالألم الناجم من أسفل الظلام ، كادت النيران أن تجعل كُل ما هو أسفل الغيوم موقداً عملاقاُ للتعصب الديني والإبادة ، تجمعت القلة الشُجاعة من المخلصين للسرابيوم لمحاولة الدفاع عنه في مواجهة الكثرة الخائفة ، ولكنهم هُزموا في نهاية المطاف لقله أعدادهُم وهربوا قادتهُم من المدينة في خوف تاركين ذويهُم خلفهم ليلاقوا أشد أنواع العذاب ، كانت صخور شوارع الأسكندرية وممراتُها يومئذ تبدوا مثل حجارةٍ من العقيق الأحمر النفيث ، فإن لَوّنَ الدم شيئاً عظمت قيمتهُ علي مر التاريخ ، ارتفع دُخان مكتبة الإسكندرية القديمة بحزنٍ وغضب ليشُق السماء مُنذِّراً إيانا بإحالة كُل علوم الأرضِ رماداً.
كانت أصوات الصراخ تبعث في القاتلين أنفسهم الرعب وسط عمليات القتل المنتشرة في المدينة ، كانت المدينة قَد أُضيئت بلونٍ أحمر قاتم جراء أنتشار الحرائق في بيوت الأبرياء ، صعد الدُخان من أحد المنازل في المربع اليهودي ليُصيب الُسكان بالسُعال الشديد.
لَم يقوي جراتيان علي استنشاق الهواء من كثافة الدُخان ومن سرعته في الركض ، حتي اختبئ تحت أريكة كانت في مدخل أحد المنازل المجاورة له ، كان يعلم بأن ما يفصله عن بوابه الشمس تقاطُعان فقط ، ولكنه كان علي دراية بالخطر الذي ينتظره في الخارج ، كان صراخ الراكضين خارج مخبأه يتردد في أذنُه فيصيبه بالارتعاش ، وكاد أن يُقسم بأن قلبه قد توقف عن النبض لعشراتِ من المرات كلما سمع صوتُ من الصارخين يتلاشى ليُنذر بنهاية المقطوعة نهايةً حزينة ، فجأة هدأ الصوت تماماً ، انتظر لوهلة ثم قرر أن يري إن كان الطريقُ قد فرغ من المارة ، باشر جراتيان الركض مَذعوراً بعد أن تأكد من خلو مساره ، قطع التقاطُع الأول بأسرع ما أعطته قدماه من قُدرة ، كانت بوابة الشمس مرأي العين ، كانت الخلاص الذي بعثته لهُ الآلهة ، قارب الوصول للتقاطع الثاني ، دقات قلبُه تبشره بالهرب القريب وتتنافس مع دقات قدماه علي الأرض فتسبقها تارة وتسبقها الأخرى تارة ، تُبشر روحه بالهدوء والرعب معاً الخروج هو السبيل الوحيد للنجاة من فرق القتلة ، ينظر خلفه للحظة ، سُرعان ما تتعثر قدماه في جثث الضحايا ، يرمق الطريق أمامُه ويُبصر الهروب قريباً فيعاود الوقوف ويواصل العدو باتجاه البوابة ، وفجأة وبدون سابِق إنذار لاحت أمامه مجموعة من الناس ، أرتمي جراتيان علي الأرض مُتظاهراً بالموت حتي يري لأي صفٍ ينتمون من القضية الخاسرة ، ورمقهم من أسفل غطاء رعبُه ليراهُم يرتدون صُلباناً حديدة ثقيلة فوق زيهم الكهنوتي التي لم تبدو ثقيلة عليهم البتة ، فلرُبما ثِقل الصُلبان علي الصدور هو ما كان يعطيهم إحساساً بالرضا عن النفس حين يقتلون الضعفاء باسم الدين الذي قد بُريء منهُم