بعد خمسة أعوام من العمل المتواصل على الفكرة، يَصْدر للدكتور حاتم الجوهري عن دار “ميتا بوك” بمصر، كتابه ومشروعه الفكري الجديد بعنوان: “نحو نظرية إنسانية ومعرفية وثقافية: ما بعد المسألة الأوربية”، حيث يتوفر في جناح الدار بمعرض القاهرة الدولي للكتاب إن شاء الله.
وفيه تتناول الدراسة احتمالية ظهور “نظرية إنسانية” ومعرفية وثقافية جديدة، منحتها اسم: “ما بعد المسألة الأوربية”، واستشراف ممكنات الدور الكامن للذات العربية فيها، حيث حمل غلاف الكتاب عنوانا هامشيا يقول: “الذات العربية ومفصليتها الثقافية الكامنة في القرن الواحد والعشرين”.
وهي “المفصلية الثقافية” التي ظهرت مع مشروع الثورات العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بمجموعة الأطر والاتجاهات الثقافية العامة ومؤشراتها التي ارتبطت بها بوصفها “مفصلية ثقافية” جديدة، تواكبت مع عدة ظروف مساعدة وصلت ذروتها مع: جائحة كورونا وصفقة القرن” ومخلفاتها، وموضوع “سد النهضة” واحتمالاته وآثاره الممتدة.
والمقصود بـ”الأوربية” في مصطلح “المسألة الأوربية” هو النموذج الحضاري الغربي بأكمله، لكن الدراسة ستستخدم مفردة الأوربية انطلاقا من أن الأصل في ظهور النموذج يرجع لقارة أوربا، قبل تمددها في موجات استعمارية أسست لها دولا جديدة على رأسها أمريكا، تلك التي تُعد حاليا أبرز تمثلات النموذج الأوربي القديم والتي تكشف عن تناقضاته الكامنة.
وتقدم الدراسة عدة فروض رئيسية لظهور هذه النظرية الإنسانية الجديدة، أبرزها أن “المفصلية الثقافية” الحالية أو مجموعة الأفكار الثقافية الرئيسية التي تسود الحياة البشرية الآن في دورتها الأوربية، تحولت إلى “مسألة”، بمعنى أنها أصبحت إشكالية تدور حول نفسها دون قدرة على الحل، في تكرارية عبثية وحلقة مفرغة تقدس أوهامها الخاصة ولا تستطيع الانعتاق منها، فيما تسميه الدراسة بـ”المسألة الأوربية” بمتلازماتها أو عُقدها الثقافية النفسية والفكرية، التي أصبحت عاجزة عن مواكبة التطور البشري، وتجاوز لحظتها التاريخية القديمة الخاصة.
وتقوم هذه النظرية الجديدة التي تطرحها الدراسة عن “المفصلية الثقافية” العربية الكامنة، على فكرة السياقية بشكل أساسي، من خلال العلاقة بين النظري والتطبيقي والظرف أو السياق الحامل لكل منهما، فهي ليست أطروحة نظرية تكتفي بالجدل العقلي المجرد عربيا وتعاليه (مثل مدرسة “العقل المجرد وفرضياته” التي ازدهرت في المغرب العربي وبلاد الشام نهاية القرن الماضي، أو الرهانات الأيديولوجية العمياء يسارا ويمينا)، ولا تكتفي أيضا بالتماس مع ما هو شعبي وجماهيري والانتصار لحماسته (مثل الحركات الشبابية الثورية المثالية التي تم الالتفاف علي طموحها النقي في ثورات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين).
وتقدم الدراسة احتمالية ظهور “النظرية الإنسانية” الجديدة؛ معتبرة أن ما قدمته الذات العربية يمثل “ثورة قيمية”، تستعيد ما يمكن تسميته بـ”التقييم الاتفاقي العالمي” للقيم والمثل الكبرى، بعدما كانت أبرز متلازمات أو عقد “المفصلية الثقافية” السابقة مع “المسألة الأوربية” تدور حول التطرف “المادي” الشديد، سواء في شكل “المادية الواقعية” التسليعية المنفلتة التي تعرف بـ”الرأسمالية” أو الليبرالية، وكذلك “المادية المثالية” التنميطية الشمولية التي تُعرف بـ”الشيوعية” أو الماركسية، ووجود عملية “تقييم اتفاقي عالمي” للصراع، والتنافس بين الشكلين الواقعي والمثالي للمادية “الأوربية” ذاتها.
وتقدم الدراسة فرضية أساسية تكمن خلف النموذج الأوربي/ الغربي و”مسألته” الثقافية، وهي أن العنصر الرئيسي الكامن خلف هذا النموذج الحضاري هو أثر “العنصر الجرماني” للقبائل القديمة، إذ تطرح أن الحضارة الأوربية مرت بثلاثة موجات، الموجة اليونانية والموجة الرومانية المشهورتين، والموجة الثالثة “الموجة الجرمانية” الممتدة حتى الآن، والتي تعود لقبائل الشمال الأوربي سكان شبه الجزيرة الاسكندنافية، والتي وصلت ذروتها إبان العصور الوسطي عندما سيطرت على الامبراطورية الرومانية الأقدم، وأسست الكيانات السياسية الجديدة في أوربا الغربية وبريطانيا، ، والمقصود بـ”الجرماني” هنا ليس “الألماني” نسبة إلى دولة “ألمانيا”، إنما المقصود القبائل الجرمانية المتعددة والمتنوعة نفسها.
كما ستقدم الدراسة فرضية أساسية هنا تكمن خلف “المسألة الأوربية”، وتربطها بـ”التطرف” الشديد الذي سترجعه لغياب “المرونة الحضارية” عند “العنصر الجرماني” نتيجة خروجه من الحياة البرية متأخرا؛ خلافا للموجة اليونانية الأقدم، والموجة الرومانية بعدها، بما سيجعل “الذهنية الجرمانية” تميل دوما نحو التشدد والاختيارات الحدية، فيما تسميه الدراسة فرضية “الثنائيات الحدية” المتطرفة وأثرها، اي التي حضور أحدها يعني نفي الآخر، بوصفها سمة أساسية ومركزية والتي سيصبح تطرفها هو مركز “المسألة الأوربية” وعُقدتها الأكبر، فستحاول أن تقدم العالم دوما في شكل اختيار حدي متطرف بين بديلين متصارعين دوما، لا ثالث بينهما.
من ثم تقترح الدراسة وتفترض أن أبرز سمات “المفصليات الثقافية” في لحظات التدافع بين “الدورات الثورية” كالحالة العربية والغربية، هو التدافع على مفهوم جديد تطرحه الدراسة وتسميه: “التثمين الاتفاقي العالمي” (Universal Common Evaluation) للقيم والعناصر الثقافية الخاصة بكل منهما؛ أي الجديدة والقديمة حيث تحدث عملية تقوم على “التثمين الاتفاقي المرتفع” عالميا (Common Overrate) بشكل تلقائي للتمثلات الثقافية والقيم الخاصة بالنمط السائد ثقافيا، بالتزامن مع عملية “بخس اتفاقي شديد” (Common Underrate) تلقائي أيضا للتمثلات الثقافية والقيم الخاصة بالأنماط المتراجعة.
وفي واحد من متون الدراسة النظرية تطرح الدراسة فرضية مهمة ورئيسية في “المفصلية الثقافية” العربية الكامنة والمحتملة ونظريتها الجديدة، وتستلهمها منها، وربما هي لب النظرية الجديدة البديلة المحتملة على المستوى المعرفي والثقافي والإنساني، في مواجهة “المسألة الأوربية” القديمة؛ إذ ترى الدراسة أن المفصلية العربية الكامنة والمحتملة تقوم على فكرة “الثورة القيمية” وفلسفتها، في مواجهة “المادية الليبرالية” الواقعية المنفلتة، و”المادية الماركسية” المثالية التنميطية معا، ومقدمة الدراسة فرضية بديلة مبينة أن التاريخ كان يقوم على “دورات” من “الثورات القيمية” تسلم بعضها بعضا؛ وهذه “الثورات القيمية” تقوم على فكرة مهمة للغاية وهي “المثالية الجدلية” أو “التدافع القيمي” وليس “المادية الجدلية” أو “التدافع المادي”.
وفي هذا السياق تطرح الدراسة مفهوما جديدا وهو مفهوم “القيمة المولَّدة” لخلق “التراتب الاجتماعي” كبناء رئيسي في المجتمع، في مقابل التراتب الفرعي أو الهامشي الذي يقوم على “القيمة المضافة” الذي تطرحه “المادية المثالية” الماركسية وقوى الانتاج عموما في تفسير “المادية الواقعية” الليبرالية أيضا.
وفيما يتعلق براهن حال “الذات العربية” في مقابل استشراف مستقبلها مع “المفصلية الثقافية” الكامنة؛ تطرح الدراسة مفهوما كليا لمقاربة راهن الحال وإجمال فكرته المركزية ورصد “مفصليته الثقافية” القديمة والتاريخية، وهو مفهوم: “دولة ما بعد الاستقلال”، إذ ترى الدراسة أن “الذات العربية” تمثلها الرئيسي المركزي يعود للقرن الماضي وأواسطه، وفترة الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي.
حيث نشأت “دولة ما بعد الاستقلال” عن ذلك الاحتلال الأجنبي، مقدمة “مفصلية ثقافية” قديمة تقوم على شعارات: الاستقلال والتحرير، وبسبب ظرفية المقاومة المسلحة وكذلك ظهور الاحتلال الصهيوني المسلح لأرض فلسطين، ارتبطت “دولة ما بعد الاستقلال” بدور مركزي تَطور وتَرسخ لـ”المؤسسة العسكرية” في معظم الدول العربية.
من ثم كانت “دولة ما بعد الاستقلال” حقيقة رد فعل لـ”ما قبلها”، وهو حضور “المسألة الأوربية” في طورها التوسعي الاستعماري، من ثم يكون تجاوز راهن الذات العربية المتمثل في “دولة ما بعد الاستقلال”، هو في حقيقته يمثل كما ترى الدراسة تجاوزا لـ”المسألة الأوربية” في الوقت نفسه، وتجاوزا لمتلازماتها الثقافية وآثارها وتمثلاتها السياسية رد الفعل لها.
وهذه التمثلات السياسية رد الفعل لـ”المسألة الأوربية” لا تشمل فقط مركز “دولة ما بعد الاستقلال” بقلبها، لكنها تشمل أيضا معارضتها يمينا ويسارا، في واسع الطيف السياسي العربي الذي يضم: فرق الدين السياسي وفي قلبها “الإخوان”، واليسار الماركسي والاشتراكي وتنوعاتهما، والتيار القومي بتمثلاته الناصرية وغيرها، ودعاة الليبرالية بمختلف توجهاتها.
إذ رصدت الدراسة كيف تمترست معارضة “دولة ما بعد الاستقلال” حول شعاراتها التاريخية، رد الفعل أيضا لـ”المسألة الأوربية” سواء مع أو ضد، وعجز هذه المعارضة يمينا ويسارا عن الخروج من قيود اللحظة التاريخية القديمة، أو متلازماتها الثقافية، بحيث تحولت تلك المعارضة إلى جزء من بنية الجمود الخاصة بـ”دولة ما بعد الاستقلال”، واحتكرت لنفسها مسارات “التحديث” والنهضة وخطاباتهما، ونظرت المعارضة العربية لخطابها وتصوراتها الأيديولوجية بوصفها الحل النهائي والمطلق ولا حل بعده لـ”الذات العربية”، وتمفصلت ثقافيا كل منها بطريقتها حول شعارات رد الفعل لـ”المسألة الأوربية” يمينا ويسارا على السواء.
من ثم أصبحت المفصلية الثقافية القديمة الخاصة بمعارضة “دولة ما بعد الاستقلال”، عقبة ترفض ظهور “مفصلية ثقافية” عربية جديدة وكامنة، فأصبحت جزءً من بنية مضادة لتطور لحظة عربية مفصلية جديدة تعيد إنتاج الذات العربية وخطابها ونخبتها، إذ رفضت المعارضة أن تتجاوز شعاراتها واللحظة التاريخية القديمة التي أوقفت عندها الزمن، ووقعت في شرك تقديس مسيرتها الخاصة ذاتها، لا هدف التغيير والإصلاح ذاته، مما أدى لعدم قدرتها على التواصل مع “الحالة العربية” الراهنة ودراستها بتجرد، والتي تواكبت مع عدة متغيرات جديدة موضعية وشكلية، الشكلية منها تمثلت بالأساس في: تطور وسائل التواصل الاجتماعي، والقدرة الشعبية على التسجيل والتوثيق، والحضور وإبداء الرأي.
وقد وضعت الدراسة الأساس لنظرية ثقافية ومعرفية وإنسانية؛ تقوم على ما أسمته فلسفة “التجاوز والتحرر” من أثر “المسألة الأوربية”، فعلى المستوى المعرفي تطرح نسقا معرفيا جديدا يقوم على التأسيس لـ”دراسات ما بعد المسألة الأوربية”، كإطار كلي ومقاربة جديدة لتناول الظاهرة البشرية بعيدا عن متلازمات “المسألة الأوربية” وعُقدها، خاصة في العلوم والدراسات الإنسانية، والآداب والفنون والنقد بمجالتهم المتنوعة. مع تأكيد الدراسة على أن “دراسات ما بعد المسألة الأوربية” تختلف اختلافا كليا جذريا، عما كان يعرف بـ”دراسات ما بعد الكولونيالية” – وأخواتها من “المابعديات” – كبنية فرعية تتمرد داخل هيمنة “المسألة الأوربية”، لأن الظرفية التاريخية لظهور دراسات ما بعد الكولونيالية كانت مرتبطة بالنقد الجزئي لفكرة معينة داخل “المسألة الأوربية”، ولم تسمح لها ظرفيتها التاريخية بالنظر أبعد من ذلك واحتمالية تجاوز “المسألة الأوربية” برمتها، وظهور حقبة جديدة كلية من تاريخ البشر مع “دراسات ما بعد المسألة الأوربية” التي تطرحها الدراسة.
هذا وقد جاءت الدراسة في ثلاثة أبواب ضمت تسعة فصول بواقع ثلاثة فصول في كل باب؛ الباب الأول جاء بعنوان: نشأة “المسألة الأوربية” بين التاريخي والآني، وشمل الفصل الأول : المسألة الأوربية بين المركزية الثقافية والأثر الجرماني ، وضم الفصل الأول ثلاثة عناصر هي: عن مصطلح “المسألة الأوربية” ودلالته، طبيعة الثقافة الأوربية بين “المفصلية” و”المركزية” و”المتلازمة”، الموجة الجرمانية وأثرها الثقافي بالمسألة: “الثنائيات الحدية” والتطرف.
الفصل الثاني جاء بعنوان: أثر جائحة كورونا بين تمثلات الهيمنة الثقافية وتصدعها، وضم ثلاثة عناصر هي: جائحة كورونا وأزمة النموذج العقلي وتفسخ البطل السوبر، الإبراهيمية والهيمنة وجدل السياسي والديني في المسألة الأوربية، الصهيونية أبرز الرواسب الثقافية للمسألة الأوربية ومفصل تفككها.
الفصل الثالث جاء بعنوان: البدائل المحتملة والجدل بين الحضاري والثقافي، وضم ثلاثة عناصر هي: العرب والصين والمقاومة بين الثقافي والحضاري ، تثبيط “الدورات الثورية” وجدل النموذج العربي مع الآخر الغربي، فلسطين وأثر الضغط على “مستودع الهوية” العربي.
الباب الثاني جاء بعنوان: بشائر المفصلية الثقافية وتدافعها بين الذات والآخر، وضم الفصل الأول بعنوان: تدافعات وإرهاصات للمفصلية الثقافية العربية، وضم ثلاثة عناصر هي: “استعادة الذات” وظهور سردية عربية كبرى، الاستلاب للآخر من الحرب بالوكالة إلى الهيمنة بالوكالة، نحو ثقافة خارج المركز ودبلوماسية تبادل الأطراف للمزيج الثقافي.
والفصل الثاني بعنوان: المفصلية الثقافية العربية وتراتبية السلب الخشن والاستلاب الناعم، وضم ثلاثة عناصر هي: التفرقة بين مفهومي السلب والاستلاب و تدافع الذات والآخر، أسباب استلاب النخب الثقافية الناعم قبل السلب الخشن الجماعي، الثورة والفرق بين الخروج الإيجابي والخروج السلبي على الذات.
و الفصل الثالث بعنوان: “المفصلية العربية” كـ”ثورة قيمية” والتفسير المادي لـ”المسألة الأوربية”، وضم ثلاثة عناصر هي: “الثورة القيمية” في مواجهة المادية الليبرالية والمادية الماركسية، في مفهومي “القيمة المضافة” و”القيمة المولدة” لخلق “التراتب الاجتماعي”، الثورة القيمية وسمات المجتمع الفعال.
الباب الثالث جاء بعنوان: مسارات “المفصلية الثقافية” عربيا بين الماضي والمستقبل، وشمل الفصل الأول بعنوان: بنية دولة ما بعد الاستقلال والبنية المفصلية الجديدة، وضم ثلاثة عناصر هي: المفصلية الثقافية لـ”دولة ما بعد الاستقلال” بين النشأة والمآل، أزمة معارضة “دولة ما بعد الاستقلال” مع المفصلية الجديدة، “التحول الطوعي” وفض اشتباك “دولة ما بعد الاستقلال” و”المفصلية الجديدة”.
الفصل الثاني جاء بعنوان: تدافع المفصلية الثقافية بين المراكز القديمة والجديدة، وضم ثلاثة عناصر هي: مسارات القوة الجديدة في أطراف الحاضنة العربية، نموذج الثورة كإضافة ناعمة للأمن القومي للمراكز القديمة وانعكاساته، الفرص الثقافية العربية فيما بعد ترامب بين الازدهار والاضمحلال.
الفصل الثالث: مصر كـ”دولة صاعدة” نموذجا والمفصلية الثقافية الجديدة، وضم ثلاثة عناصر هي: فرضية “الدولة الصاعدة” والقلب الحامل لحاضنته الثقافية، تمثلات مشروع “الدولة الصاعدة” لـ”استعادة الذات”، تمثلات مشروع “الدولة الصاعدة” لـ”تجاوز الآخر”.
وانتهت الدراسة بالخاتمة التي وضعت فيها نتائجها ومجمل خلاصة بحثها في الموضوع.