كعادتها كل يوم كانت “الجدة” (التي جاوزت الثمانين بظهرها الذى انحنى ووجهها الذى رسم شحوبه وتجاعيد السنين عليه شقاء جما وضفائر شعرها الابيض المتدلية)، أولى المنتظرات أمام “فرشة” الطعمية، وهى تنظر الى أقرصها التي تنضج متراقصة في طاسة الزيت. وما أن خرج بعضها الى المصفاة حتى التقطت بعضا منها ساخنة في قرطاس الورق الذى يحتضن خمسة من أرغفة “الطابونة” الطرية، وانطلقت مسرعة الخطى الى بيتها،
حيث “جمال” حفيدها الوحيد الذى تكفله بعد أن كف بصره أخذت تحاور نفسها
-فات الكثير ولم يبقى الا القليل فهو قد أتم الجزء الثاني والعشرين، وقارب على أن يختم القرآن كله، عله يكون سندا له في هذه الحياة، ممنية نفسها بأن عليها أن تستعد، فعما قريب سيكون بيتها مقصدا لأطفال القرية الراغبين في حفظ القرآن في “كتاب الشيخ جمال” بل أن أمانيها أخذتها الى أبعد من ذلك . فإن أتم الله نعمته على جمال و استعذب الناس صوته بعد أن يبلغ مبلغ الرجال، فسيكون حينها قارئ في المآتم، حتى إن ذاع صيته ، سيكون عليه أن يجمع بين الاثنتين، ففي الصباح يكون” الكتاب” في فسيحية الدار، وفى المساء تكون المآتم.،… وأما عنى أنا. سأقوم بعمل “معجنة” صغيرة من الطين حتى أكون وفيت بنذري، بمحارة المصطبة بيداي وأعيد طلاء واجهة الدار، واستكمالا للنذر سوف أشترى لك يا “جمال” حصيرة جديدة و كبيرة تغطى المصطبة كلها، وقطعة من قماش الصوف وافصله لك جلبابا يليق بشيخ الكتاب وعمة بطربوش احمر له زر يتدلى تحت شال العمة الابيض..
هنا كانت قد بلغت باب البيت. وقفت امامة و اطاحت راسها.
فطارت ضفيرتها المعلق بها المفتاح النحاسي الكبير فوضعته في الباب مضطربة بعدان جاءها صوت جمال فزعا من داخل الدار وهو يناديها
– ستي يا ستي انت رحت فين؟ وبينما تدير المفتاح في الباب… يأتيها صوته اكثر فزعا من الداخل
-من اللي بفتح؟ ….
ستي يا ستي!؛؛؛
كان “جمال “الحفيد يفزع عند سماع أي صوت دون ان يعرف مصدرة او عندما لا يرد علية احدا… وما ان انفتح الباب حتى اسرعت الجدة الى داخل الدار
-انا…..انا يا حبيبي ماتخافش
ومستبقة عتابة على خروجها دون إخباره قالت
لقيتك نايم سيبتك وروحت جبت فطار….. قوم علشان تلحق الكتاب.
نهض ومد يده تبحث في ظلام ما حولة عن يدها وحينها اشتم رائحة الطعمية الساخنة قال
– ربنا يخليك لي يا ستي.
وقبل ان تسأل سؤالها اليومي الذى حفظة عن ظهر قلب أجابها وهو يقبل يدها
-عارف يا ستي…. انت في الجزء الكام دلوقتي؟… انا بدأت امبارح في الثالث والعشرين .
انتظرت امام باب الحمام جالسة القرفصاء حتى خرج ومن الابريق صبت القليل من الماء الدافئ على يدها الممسكة بالصابونة ومررت الرغوة على وجهة وغره شعره الحليق ثم صبت الماء على وجهة كلة وهى ترقب فرحته الطفولية.
خلع جلباب النوم وامسكت لة الجلباب المقلم المخصص للكتاب واضعة اية على راسة حتى أكتافه وادخل نفسة داخل الجلباب
-فين الطاقية يا ستي؟
قامت بوضع الطاقية المصنوعة من نفس قماش الجلباب المقلم على راسة.. وفى احد الارغفة الساخنة وضعت ثلاثة من اقرص الطعمية والقليل من الملح وقامت بطي الرغيف عليها واحكمت اغلاق يدى “جمال” عليه افطر زمان “احمد” جاي يأخذك معه
2
وفى” الكتاب” كان “لجمال” مكانه المخصص بعيد عن كل أقرانه بل على دكة الشيخ حسن نفسة حيث كان الشيخ مكفوف البصر وكان يرى في جمال خير خلفا له… فقربة الية واتخذه “عريفا “له و اوكل الية تسميع قصار السور لباقي المبتدئين من الاطفال.
وفى سهوة من الشيخ وهو مشغولا جاء الدور في التسميع على” فتحي” ذلك الطفل الذى في نفس عمر “جمال” ولكن ومازال يحفظ في قصار السور وعندما انقطع صوته عن مسامع جمال الذى انتظره وأمهله لحظات للتذكر وهو
يكرر (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا)
ثم يسكت دون ان يكمل …. تقمص جمال روح الشيخ في لحظة خادعه فتخيل انه محميا بمنصب العريف الذى عينه فيه الشيخ وامدت يده الى العصا الموضوعة على مقربة منة ولسبب لا يعلمه الا “جمال” وحدة- فقد كان فتحي دائب على معايرته بعماه سحب “جمال” العصا ورفعها في محيط ظلامة وهوى بها على “فتحي” وهو يرفع صوته ليبرر ما يفعله للشيخ.
-انت مش حافظ لية؟؟؟
وكرر الضرب
-هو انت صغير؟
-انت مش حافظ لية؟؟؟
وحتى اللحظة التي انتبه فيها الشيخ لصوت الهرج كان قد اصاب “فتحي” من عصى جمال الكثيرة ثلاثة احداها على راسة اشتات على اثرها فانقض على “جمال” فأوقعه من على الدكة واشتبكا في عراك لم ينتهى الابعد ان قام الشيخ وتحسس جسديهما المتشابكين واوسعهما ضربا حتى ابتدعتا عن بعضهما وتوعده “فتحي” عند الخروج فرد علية جمال
– ماشي يا ابو ربع ناشف.
قاصد ضمور ساقة بفعل شلل الاطفال.
على عجل انهى الشيخ يوم “الكتاب” وصرف الصبية جميعهم الا “جمال” خوفا علية من وعيد ذلك الشقي الذى قد يكون منتظرا بالخارج وعندما تأكد من انصرافهم جميعا بتتبعه جلبتهم في الخارج اصطحب جمال الى بيت الجدة
. 3
تحسست” الجدة” اثار الاظافر التي نهشت رقبة حفيدها.. واستطاعت ان تحصى اثار الاسنان التي اخترقت كتفه رغم صراخه وهى تتحسسها…. اخذت جلبابها واستكملت وضع طرحتها في الطريق غير عابئة بنداءات “جمال” عليها
-انتى رايحه فين يا ستي تعالى هاقولك…. انا مش هسيبه انا هاقرأ عليه عدية ياسين وآية الكرسي كمان…. وها تشوفي ربنا هيعمل فيه ايه.
وعندما لم تجيبه الجدة اعتقد انها ابتعدت ولا تسمعه
لكنة استطاع ان يميز صوتها الممزوج بأصوات النساء اللاتي تجمعن يستفسرن عن شتائمها ودعائها على” فتحى” الذى وصفته بالمسعور…
وكان جمال يتسمع سعيدا بكم الشتائم والدعاء على “فتحي” لعلمة ان ما يسمعه الان هو مشهد تحضيرى لمشهد اخرحقيقى امام بيت” فتحي”… الا ان فرحته تبددت بعد ان ازاحت الجدة طرحتها الى الوراء لينكشف شعرها الذى شاب عن اخرة رافعة يدها الى السماء بأقصى ما استطاعت
-يأرب اجعل يومه قبل يومي
هيعيش إزاي من غير ى وسط المسعورين دول.؟
4
حل المساء ولم تعد الجدة من معركتها البرد بدأ يشتد وجمال يجلس وحيد يصفق بظهر كفة على كفة ربما يؤنس وحدة نفسة وربما ليتأكد من انه مازال قادرا على استراق السمع طال انتظاره وبدا يشعر بالجوع والبرد……. فاخذ يرتل القران بصوت مرتفع….
بدا جمال يشعر بالخوف عندما انقطع صوت الخطوات التي تأتي الى اذنة من الشارع…. واذا بخطوات تقترب داخل البيت
– من….. ستي؟ ….لا….لا لا عرفتك….. انت ابو هيبة.
فيأتيه صوت عم هيبة
– انا يا جمال اية الصقعة دي…. انا هاولع تعالى… ادفى معايا
ويرد جمال في خفة ظلة المعهودة-
وانت فتحت فجأة كدة يا ابا هبة……دا الحال من بعضه ويضحك جمال ضحكته الممتدة مكملا حديثة
-ولا…صح….صح ما انت…. فاضلك شوية نظر لكن انا حجر…والله حجر.
وابتدأ العم هيبة في تجميع قالوح الذرة من تحت السلم وقام برصها على تراب” القصعة” وسكب بعضا من الكيروسين من زجاجة قريبة. وهو يسأل جمال
-انت عرفتني؟! وانت بتقول النظر حجر
وتتصاعد ضحكة جمال وهو يقترب مستشعرا دفء القصعة.
عرفتك من صوت رجلك ثم يكمل ضحكة هامسا لنفسة دون ان يسمعة العم هيبة
-عرفتك من الرائحة الى هبت على.
وهو يجلس القرفصاء بجوار النار
ضربت قدمه شيء ما لم ينتبه الية وهو يقول
-تعالى….. تعالى لما احكى لك اللي حصل في الكتاب النهارده .وبينما يواصل جمال سرد وقائع معركة الكتاب مضيفا الى احداثها ما يجعله منتصرا وحاذفا نهش الاظافر في رقبته وافتراس الاسنان في كتفة.
فجأة استشعر جمال بللا في ملابسة تحسسه بيده فانتفض واقفا عندما اشتم رائحة الكيروسين عالقة على يده…
-يا نهار اغبر يا ابا هيبة دا جاز لم ينتبه جمال وهو يقفز فزعا متخبطا وبدأ وهو يهرب يصطدم بكل ما حول بينما تنهش النار في جسده بعدما تمكنت من ملابسة
صرخ جمال
– ابا هيبة…الحقونا ياناس. الحقينى يآستي
ولكن العم محمد كان قد اصابه ما اصاب جمال الذى كان يجرى فى محيط ظلمة لاتنتهى صارخا -ستى … يا ستى
انت فين…… سيبتينى لية؟!؟!!