يظل الحبُّ عصيًّا عن الفهم. لأنّ الحب، كما قال أحد الشعراء ”يفاجِئ القلوب، ثم لا يلبث أن يصبح هو السيّد“.
تقول الحِكمةُ إنه لا خيرَ في حياةٍ يحياها المرء بغير قلب ولا خير في قلب يخفق من دون حب.
تُرى، من منّا لم يقع مرّة، أو مرّات، في تجربة الحب، بِحُلوِها ومرّها، بنشوتها وخيباتها ؟ لا أحد، إلا من كان لا يملك سوى قلب من ”حجر“.
يقول المحلل النفسي يونغ ”حيثما يترّبع الحبُّ تغيب إرادة القوة، وحيثما تُهيمِن إرادة القوة يغيب الحب. فهذه ظلٌّ لذاك وذاك ظلٌّ لتلك”.
الحال أن الرجل يقع في حبّ امرأة لأنه يَحمل امرأة في داخله. وتقع المرأة في حبّ رجلٍ لأنها تحمل رجلا في داخلها
تتمثل إحدى مساهمات يونج الأساسية إذن، في كونه لفت النظر الى الفروق القائمة بين لاشعور الرجل ولا شعور المرأة. ففي لاشعور كل رجل توجَد مكوّنات أنثوية. وتُشخَّص هذه المكوّنات بواسطة رمز نمطيّ تراثي أعطاه يونج اسم أنيما Anima التي تعني باللاتينية (الروح) أو (نَفَس الحياة) وهو ما يُنشّط. ونظيرُ الأنيما عند المرأة هو الأنيموس Animus ويُشخِّصه عند المرأة، رجلٌ واحد، أو عدّة رجال.
يقول يونج “وتسهيلاً للأمور سنتحدّث أوّلاً عن الأنيما. فعندما تظهر في الأحلام فلسنا نراها بالطبع في ملامح امرأة حقيقية، ولا في هيئة صورة ذات مواصفات ثابتة، لأنّ صُور الأنيما متغيرة. وما دامت لاشعورية فإنّ الرجل يُسقِطها على امرأة، وأحياناً على عدّة نساء في آن واحد، أو بصورة متتالية. ولتأكيد رُجولته قد يرغب الطفل، ثم الشاب في إِلغاء الملامح التي تبدو له أنثوية من شخصيته فيكبُتها ثم يُسقطها (لأنّ كلّ مكبوت يصبح قابلا للإسقاط، وهذه آلية لاشعورية لا ينجو منها أحد). ففي مرحلة الرضاعة، ومن بعدها في مرحلة الطفولة، تكون الأم وهي الرفيق الطبيعي لتلك الفترة، هي التي يُسِقط عليها الطفلُ المكوّنات الأنثوية من شخصيته. وعلى العموم فإنّ أهمية الأم تتضاءل كلّما كبر الطفل، إلا أن تأثيرها في الواقع يظل مستمراً في ممارسة نشاطه بصفته نمطاً تُراثياً للمرأة. فهي المرأة الأُولى التي عرفها، وستظل مُحتفظة بأهميتها سواء وعَى الطفلُ ذلك أم لم يعِه. فهي (هذه الأم) إذاً مصدر بعض مواصفات الأنيما. ونحن هنا نصف بالطبع النمو الطبيعي للفرد. لكن قد يحدث أيضاً أن يظل الشاب عاجزاً عن التخلص من نفوذ أمّه فيصاب بمركّب أموميّ، حيث تصبح أمُّه بالنسبة له، ذات أهمية مفرطة. ويحدث هذا عندما تكون الأم ذات طبْع جدّ متفتّح معه، وحين تكون مفرطة في عطفها له، وعندما على العكس من ذلك يكون الأب مُنعزلاً. وفضلاً عن ذلك، فقد تكون لدى الأم نزعة إلى إهمال دور الأب، وإلى اعتباره كشيء عادي لا تزيد أهميته قط عن مجرد قطعة أثاث. فتتشبّث الأم بالابن، وهو في الغالب أصغر واحد في العائلة، وتحرّضه في نفس الوقت على الزواج إذا ما حان وقته. لكنه لا يستطيع ذلك، لأن جنسيته الغيرية hetero-sexualite تكون قد تعلقت بصورة الأم بشكل لا يقبل الانفكاك عنها.”
لكنْ، كيف يقع الحب عند الرجل وعند المرأة؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من أن نفهم التركيبة النفسية العميقة لكل منهما.
من العسير تفسير سلوكيات الإنسان من منظور الشعور والوعي وحده. لذلك يقول يونغ، بعد اكتشافة للاشعور الجمعي إنه ليس هناك رجل هو مجرد رجل، وأن ليس هناك امرأة هي مجرد امرأة فقط. فكل رجل هو رجل وامرأة في الوقت نفسه، وكل امرأة هي امرأة ورجل في الوقت نفسه.
وهذه هي الحقيقة الروحية الكامنة في اللاشعور الجمعي، والتي لا ندركها إلا بالكشف عنها عن طريق استكشافنا للاشعور، وفقًا للمبادئ التي وضعها يونغ ومدرسته.
المرأة في الرجل هي ”الأنيما“ والرجل في المرأة هو ”الأنيموس“. إلا أن البُعد الأنثوي يظل، في معظم الأحيان، خفيّاً عند الرجل، وبالمثل يظل البُعد الذكوري خفيّاً عند المرأة. وهنا السرّ في العلاقات بين الرجل والمرأة، ومنها علاقة الحب بينهما.
الأنيما Anima إذاً تعني حرفيّاً ”الروح“. ففي عِلم التحليل النفسي تعني كلمة ”أنيما“ الجزء الأنثوي للرجل، أو ”المرأة الكامنة في الرجل“. والحال أن هذا التعريف قد يكون تعريفًا سيّئًا في نظر الكثير من الرجال الذين يرون فيه نوعًا من ”الخنثوية“ التي لا يتحمّلونها أخلاقيا واجتماعيًا، ودينياً كما هو معروف.
لكنّ علم التحليل النفسي يقول لنا إنه من الخطأ أن نكتفي بهذا التعريف المبتور، وأن نرفض مبدأ الأنيما انطلاقاً من سوء فهمِنا لمصطلحٍ يحمل في طياته أبعد ممّا يوحي به من أوّل وهلة.
لأنّ الأنيما، – وهي لفظ يوناني قديم اقتبسه يونغ في مذهب استكشافة للاشعور الجمعي – تعني ”القطب الأنثوي“ عند الرجل. وهو ما ليس له أيّ صلة بأي ضعف كان.
وللمقارنة يُشبّه أحد المحللين النفسانيين، موضوع الأنيما بآلة بخارية. فهو يُشبّه القطب الأنثوي بالمرجل والبخار المضغوط الذي تحتويه. ويُشبّه القطب الذكوري بالتوربينة. ومن هنا ندرك أنه من دون طاقة المرجل وقوّة محتواه فلن تفيد التوربينة في أي شيء. فهل تعني المحطة الكهرومائية شيئاً من دون بحيرة تستمدّ منها طاقتها؟ مثلما لن يكون لذكاء الرجل وفكره أيّ معنى من دون أنيما سويّة وفاعلة.
فالأنيما هي الطاقة الإبداعية الكامنة في لاشعور الرجل، وهي تضم منذ الطفولة شبكة المشاعر والأحاسيس، ولذلك فهي بمثابة ”رادار“ الرجل.
أمّا الأنيموس Animus فهو القطب الذكوري عند المرأة. فهو الجزء المنفتح (الانبساطي) الإبداعي والمهيكَل اجتماعياً. وهو قطب المنطق والفكر. وهنا أيضاً كلّ شيء مرهون بصحة هذا ”الأنيموس“ وفعاليته.
ولمّا كان القطبان كامِنَيْن في اللاشعور الجمعي، فهما مُعرّضان للإسقاط حتماً، كأيّ شعور مكبوت، وفقًا لنظرية علماء التحليل النفسي. يعني ذلك أنّ الرجل يُسقِط على المرأة قطبَه الأنثوي الخفيّ، وأنّ المرأة تُسقِط على الرجل قطبَها الذكوري الخفيّ.
ومن هنا نفهم أن الرجل يقع في حبّ امرأة لأنه يحمِل امرأة في داخله. وتقع المرأة في حب رجلٍ لأنها تَحمِل رجلا في داخلها.
ولكنْ، لماذا يقع الرجل فجأة في حب امرأة بعينها دون آلاف النساء سواها؟ لأنها –لاشعورياَ- تتناسب مع صورة المرأة التي يحملها في داخله، فيقول ”هذه فتاتي“. فهي إذن المرآة التي تعكس صورته الأنثوية الخفيّة بشكل من الأشكال.
وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة التي تقع في حب رجل تُسقط عليه ذكورتها الخفية فتقول عنه ”هذا فارس أحلامي“.
القطب الذكوري والقطب الأنثوي طاقتان نائِمتان تصحوان عندما ترى كلٌّ منهما وجهَها في مرآة الثانية.
هذان القطبان هما اللذان يُحدِثان، بجاذبيّتهما ومغناطيسيّتهما الانجذابَ والفتنة والسِّحر التي نسمّيها حبّاً، ولكن…
هل هناك رجل متطابقٌ كل التطابق مع الصورة التي تحمِلها المرأة في داخلها؟ وهل هناك امرأة متطابقة كل التطابق مع المرأة التي يحملها الرجل في داخله؟ وهل ستظل أوجه التشابه هي هي بعد الزواج، أي بعد أن يعاشر كلُّ طرف الطرفَ الآخر ويعرف صفاته وطبعه؟
بالطبع لا. وهذا ما يفسر التنافر، أو على الأقل، تراجع الحب الذي لم يعد ساحراً ولا فاتاً. قد يظل الحب والاحترام قائمين بين الطرفين، لكن لن يكون لهذا الحب بينهما الألق الذي كان بينهما في البداية
وهذا هو الذي يجعل الزوج يسعى أحياناً لأن يغيّر زوجته، ويجعل المرأة، تحلم على الأقل، برجل آخر.
والحال أنه إنْ فعلا فلن تُحلَّ المشكلة، بل ستجعل هذا الرجل وهذه المرأة يقعان في فخّ جديد… فخّ الأنيما والأنيموس.