القمر في السماء بئر ضوء، يفيض بنوره على قبة الليل، فينسكب ضوؤه كخيوط ألم، على الأسرجة المعلقة في جنبات بيوت متهالكة، يسري إلى الساحة المجعولة للصلاة، ليعرج إلى أقصى مداه، ويعود، ينفرد على حنايا حبات برتقال، ينجذب كقلوب أصحابه إلى أرض غير بعيدة، بعيدة، وعلى صلابة خوذات الجنود المنصوبين في أول وآخر الطرقات، وعلى التراب المقدس حيث سار من زمن أنبياء.
يفيض نوره النهاري الرائق، يمر بالدروب، بين نسائل أوراق خضراء، محروقة الأطراف، يلمع في لحظات الصمت، ويخفت في زخات دوي رصاصات تحصد الأفئدة العائدة من شقائها اليومي، تعبر كمائن العنف اللاهي، إلى حتفها. ينفرد على الموت المنثور في طرقات المدينة المأسورة، وينطمر في الوهج الفوسفوري المشتعل في فضاءات المدينة المعزولة حتى عن سمائها.
وبانسيابية، يناور النور الكامن له بالمرصاد، ويفر من الحريق المترصد له، يعبر بليونته القمرية شفافية زجاج الشاعر، القابع في سكون وحدته، المائل على كتب الأسلاف، يخط في لغة الغضب عناقيد حبه للطفل يرضع الدخان المسيل للدموع، وللشيخ يحمل جسد ابنه الدامي، يواريه الوطن،وللأم تحمل وعاء ماء مخلوط بروائح من كانوا معها بالأمس، وما عادوا، ومن سمعوه يرتل فيهم قصائده.
يغمس طرف الريشة في المحبرة، ويرسم الحرف الأول، للكلمة الأولى، في البيت الأخير، حيث يقطن المهمومون، والمطاردون، والمأسورون، والشهداء، وينهض، يرنو عبر زجاج نافذته، وعلى الزجاج، تمتزج ملامح وجهه بدائرة قمر فائر في السماء، يفيض بنوره الرحيم على الدنيا من تحته.
تطمس أنوار هائجة لسيارات عسكرية كل الضوء والملامح، وتخرق الزجاج بوهجها المتأرجح فوق أحجار الدرب الضيق. يعلم وجهتها، يفتح بابه الخشبي العتيق، ويتجه إلى كرسيه، يدفعون صخبهم إلى وحدته، ويرحلون به والأوراق.
وفي الضوء الأبيض الرائق لقمر المساء، ينظر إلى جدران بيوت المدينة السارية، فيلمح حروف قصيدته المكتوبة توا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة للفنان الفلسطيني محمد الركوعي