كتب : سامح مبروك
صبيح السويسي
في صباح أحد أيام شهر أكتوبر، حيث كانت نسمات الخريف العليلة تطارد فلول صيف حارق، خرج الحاج صبيح السويسي سليل عائلة السويسي العريقة، في كارتته الفارهة التي يجرها زوج من الأحصنة ذات العرق العربي الأصيل، خرج يطالع أملاكه وأفدنته التي كادت تقترب من نصف مساحة “كفر الحمير”، تلك القرية التي استوطنتها عائلته منذ قديم الأزل.
وبعد مسيرة طويلة ملأ فيها صدره من هواء الخريف الجميل وملأ عينيه من جمال أملاكه واتساع رقعتها، وصل إلى حد القرية الذي يلامس الترعة، وهناك وجد بناءً جذابًا يسر الناظرين -بمقاييس تلك القرية بالتأكيد-، وما كان هذا البناء إلا مقهى تمتلكه عائلة السويسي بالطبع، فترجل عن كارتته وترك قيادتها للخادم ودخل مسرعًا إلى المقهى.
حبيب السويسي
دخل صبيح المقهى وفي الطرف المقابل للباب وجد أخيه الحاج حبيب مهندس هذا البناء الجميل، والذي اختار هذا المكان بالتحديد حيث الإطلالة الجميلة على الترعة، والهدوء والبعد عن صخب القرية وأزقتها، وربما أيضًا كان هذا البعد مقصودًا ليقصر الحضور إلى هذا المقهى على كبار البلد ممن يمتلكون وسيلة تنقلهم لهذا المكان البعيد.
ولكن صبيح وجد أخيه وشريكه في تلك الأملاك العملاقة حبيب ساهبًا مهمومًا يفكر، للدرجة التي جعلته لا يلتفت لدخول أخيه الأكبر، فبادره صبيح بالكلام:
صباح الخير يا حبيب، مالك شايل طاجن ستك وبتفكر في إيه؟
فالتفت إليه حبيب الذي انتبه فجأة لوجوده وقال:
صباح الفل يا صبيح، بصراحة مش عارف الحال في القهوة هنا زي ما انت شايف، مافيش رِجل وحاسس اننا ممكن لا قدر الله نخسر في المشروع دا، دا حتى المعسل اللي جبناه وخزنناه من سنتين أول ما فتحنا القهوة لسه بحالته وقرب يعت من الركنه.
مهرجان الجوزة
فتوتر صبيح من تلميح أخوه حبيب لاحتمال الخسارة، فتلك الكلمة مرفوضة بل محرمة في هذه العائلة عبر العصور، فشارك أخيه التفكير ثم لمعت عيناه وارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة وقال: طيب واللي يحلها لك يا هندسه؟
فأجابه حبيب: أديله نص ربح المعسل المركون دا.
فضحك الأخوان دون موافقة أي منهما على اقتراح الأخر، ربما لطمع صاحب الفكرة ولبخل الآخر، ثم استرسل صبيح في عرض فكرته لأن أكثر ما كان يهمه هو تجنب الخسارة والتربح من أي مشروع أيًا كانت الوسيلة وقال: بص يا هندسة؛ إحنا هنعمل مهرجان.
فتعجب حبيب وأجاب باستنكار: مهرجان؟ أغنية يعني؟ ماتصغرناش يا حج.
فضحك صبيح وأكمل: بص لو المهرجانات هتكسبنا هنعملها طبعا، بس لا مش المهرجان اللي بيتغنى، مهرجان جوزة، اسمعني للآخر وهتفهم.
هنعمل حفلة كبيرة ندعي فيها أهم كبرات البلد والأغنيا قوي عشان يحضروا ويفرفشوا ويدخنوا جوزة ببلاش، وكمان ممكن نشغل الكارِتات بتاعتنا تجيبهم لحد القهوة وبردو ببلاش، ونعمل مسابقه بينهم في أكتر واحد يسحب حجارة من غير ما تفسه يتقطع ونوزع عليهم هدايا كمان.
ودول بقى يكونوا في الصالة اللي احنا قاعدين فيها دي، وبره بقا هنعمل الآتي، هنجيب الواد “قرني الديب” بتاع الفراشة وميكروفونات الأفراح يفرش لنا خيمة وكراسي بره للناس اللي عايزة تيجي تتفرج عالمهرجان والمسابقة ودول بقا يدفعوا على الفرجة والجوزة والمشروبات، ونشغل دي جي، ونخلي الولا قرني يلف على البلد كلها بعربية عليها ميكروفون يذيع فيها عن المهرجان والمسابقات والمفاجآت.
الغجر
أمعن حبيب في التفكير بما يقترحه أخيه صبيح، وقد استهوته الفكرة ولكنه كان يشعر أن شيئًا ما مازال مفقودًا، فعبر عن هذا بقوله: بص يا صبيح هي الفكرة حلوة بس كده احنا زي المغسل اللي ضامن جنه، إيه اللي هيخلى الغلبان ولا الفلاح يجي يتفرج عالكُبرات وهما بيشربوا جوزه ولا بيلعبوا في مسابقة ببلاش وهو يدفع؟ لسه مش مقتنع، وخايف نتورط والخسارة تكبر.
فأجابه صبيح بخبث: محنا هنجيبلهم اللي بيطلع القرش من حبابي عنيهم.
فتعجب حبيب من ثقة صبيح وسأله: ودا مين دا يا حج؟
فأجاب صبيح بثقة تصل للغرور: اللي كله مره بيريلوا عليهم وما بيطولوش منهم حاجه، نسوان الغجر، هنخلي الولا قرني يفرش سجاده من أول الخيمة اللي هنعملها برة لغاية باب القهوة، بحيث ان كل واحد قاعد برة يشوفها ونخلي الغجر يبحبحوها شوية في اللبس والدلع ويدخلوا واحدة ورا التانية، اللي تغني واللي ترقص واللي تتقصع جوا بقا للكبرات واهم الغلابة يتفرجوا ويتبسطوا.
هنا انشرح وجه حبيب عن ابتسامة تتسع لما بين أذنيه وقال: الله عليك يا كبيرنا يا أستاذ، توكلنا على الله.
فأجابه حبيب بفرح وأمل: على بركة الله.
قرني الديب
انطلق قرني بحملة إعلانية ضخمة تملأ فضاء “كفر الحمير” بالكامل، الآلاف من الصور للغجريات الجميلات التي يكتسين بما يفضح أكثر مما يستر، والسيارات التي تسير داخل البلد على مدار الساعة للإعلان عن مهرجان الجوزة وما سيتضمنه من مسابقات وفقرات ومتعة غير مسبوقة في كفر الحمير ولا في الكفور المجاورة، مما أثار جلبة وضجة في البلد بالكامل هذا الحدث الجلل وجعله حديث أهل البلدة جميعا كبيرهم وصغيرهم، مما أثار حفيظة إمام المسجد الشيخ “عبد الله شكري” الذي ثار وهاج وماج في خطبه المتتالية في المسجد بعد الصلوات، وراح يحذر من خرابٍ مدمر من جراء الانجرار وراء هذا العري والفحش والبغاء الذي أتى به آل السويسي للبلدة، وعن العواقب الوخيمة لانجرار البلدة وراء هذه الفتن المدمرة، وفي اليوم الذي يسبق المهرجان خرج وسط حشد من المصلين بعد خطبة عصماء أعقبت صلاة المغرب وقاموا بتمزيق الصور المعلقة على الحوائط، بل أنهم استهدفوا إحدى السيارات المعلنة والتي كان بها قرني بنفسه فكسروها وأبرحوه ضربًا لعله يرتدع، وما كان لهذا الحادث إلا أن زاد إصرار أهل البلدة على الحضور، فكذلك هي الحياة المحرم والممنوع دومًا مرغوب ولو من باب الفرجة.
الليلة الكبيرة
وفي الليلة المنتظرة، وبأجواء احتفالية كبيرة، جلس قرني إلى جوار الدي جى وكانت جروحه وكدماته ما تزال ظاهرة للعيان، جلس على منصة عالية وفي يده كعادته الميكروفون يعلق على الأحداث ويفصل دخول الغجريات واحدة تلو الأخرى بملابسهن ومواهبهن البارزة والمتعددة، والمئات من أهل البلد يصطفون وقوفا وقعودا ونياما وفوق بعضهم البعض في الخيمة الخارجية، عسى أن تنال عين أحدهم نظرة أو بسمة من إحدى الغجريات الجميلات، حتى أن الجمع بالخارج لم يخلو من الشيخ عبد الله نفسه وأتباعه الذين ربما أتوا لمقاومة ما يحدث أو حتى لمشاهدته والمشاركة به، فالله وحده أعلم بالنوايا.
انطلق الحفل الكبير ودارت الجوزة بالداخل والخارج وكان الإقبال مُنقطع النظير، تمامًا كملابس الغجريات مُقطعة تكشف وتشف ولا تستر، فوقف في الشيخ عبد الله يخطب في الناس بالخارج ولا يترك فرصة يسترق فيها النظر لغجرية تمر من هنا أو هناك: حرام عليكم أيها الناس، اتقوا الله، سيخسف الله بكم الأرض وتنالون من الله ما تستحقون على هذا العري وهذا الفجور.
وبعدما تعالى صوته خرج من الداخل الحاج صبيح وأخوه المهندس حبيب السويسي وهما يختالان بما حققاه من نجاح باهر قضى في أول ساعة من الليل فقط على مخزون المعسل بالكامل ونصف مخزون فحم القرية، وخاطب الحاج صبيح الجمع قائلًا: اللي مابيحبش مهرجان الجوزة ما يتفرجش .. ويتقي الله ومايبصش على الفساتين.
وانطلق وأخيه بضحكة مدوية نالت ما نالت من أعصاب الشيخ عبدالله الذي وقف مشدوهًا مع الجموع بلا حول ولا قوة، زادت سخونة الأحداث والملابس والأجواء، وتناقل الخدم الفحم المشتعل بين الحضور لتغيير أحجار الجوزة، ومع السخونة الزائدة تدافعت الجموع بالخارج لما مرت إحدى الغجريات بفستان أكثر حرارة من الفحم المشتعل، فأصاب التدافع أحد الخدم من حملة الفحم، فسقط وسقطت معه النار على أطراف الخيمة.
فانتشرت نيران لا تبقي ولا تذر في الخيمة والمقهى بالكامل، والناس والغجر وأغنياء البلد كل يبكي على ليلاه، فمنهم يلوذ بالفرار ومنهم من يحاول التحرش بإحدى الغانيات، وأبناء السويسي يندبون خسارتهم الفادحة، وعلى أطراف الخيمة المحترقة وقف الشيخ عبد الله يصيح بأعلى صوت يمتلكه، والنصر والشماتة تملأ عينيه وقلبه: إلهي تولعوا بجاز وسخ في الدنيا والآخرة يا ولاد الكلب.