رُبَّما من يومها وأنا أحبُّ قراءةَ كُتب التاريخ ، الملأى بالفراغاتِ البيضاء ، كأنَّ مؤلفيها يقُولون للطلاب بعد أن تركُوها عمدًا بالاتفاق مع مُصمِّميها : أكمِلُوا ما نقص ، واملأوا المساحاتِ الفارغةَ التي أغفلها المؤرِّخُون ، فلا توجدُ حكايةٌ كاملةٌ ، ولا قصَّةٌ تامة ، ولا تاريخ إلَّا ويستحقُّ التنقيةَ والتصفيةَ ، وإعادةَ الكتابة من فرط الحذفِ والتحريفِ والتشويهِ والتزييف.
ولما استلفتْ مني زميلةٌ لي في المدرسة الإعدادية سنة 1974 ميلادية كتاب التاريخ ” المملوء بالمساحات البيضاء ” بحُجَّة أن كتابَها ضائعٌ أو مفقودٌ ، أعرتُها الكتابَ ، وهي في الأصل كانت زميلةً لأختي سعاد التي كانت تكبرني بعام ( من مواليد 1959 ، وماتت في سنة 1995 ميلادية ، في سن الخامسة والثلاثين ) .
وبعد يومٍ أو اثنين أعادت ” وردة – وهذا اسمُها المُستعار ” الكتابَ ، فركنتُهُ في إحدى زوايا غرفتي ، إذْ كُنتُ مشغُولا بأمورٍ دراسيةٍ وثقافيةٍ أخرى ، ولمَّا رأتني في المدرسة ، قالت لي : هل شُفت الكتاب يا أحمد ، قلتُ لها : ليس بعد ، قالت : كتبتُ لك فيه شيئًا .
وكُنتُ أعرفُ أنَّها لا تجيدُ الكتابةَ ، ولن تفلحَ في التعليم من الأساس ، بدليل أنها أخفقتْ في المرحلة الإعدادية ، وتلك مرحلةٌ لا يسقطُ فيها طالبُ علمٍ ، لكنَّها كانت تمتازُ بجمالٍ وخفَّة دم ، يندر أن يجدَهُ طالبٌ مثلي في مدرسة الزرقا الإعدادية المشتركة حيث كُنتُ أدرسُ ، إذْ لم تكُن في قريتنا في ذلك الزمان سوى المدرسة الابتدائية .
عُدتُ إلى البيت ، وفتحتُ الكتابَ ؛ فوجدتُ أن “وردة ” قد كتبتْ لي أغنية ” فاتت جنبنا ” التي غنَّاها عبد الحليم حافظ فى قاعة الاحتفالات الكبري بجامعة القاهرة سنة 1974ميلادية – وفي الليلة ذاتها غنَّى أغنية ” أي دمعة حزن لا ” – وهي من لحن محمد عبد الوهاب ،
وكتب الكلمات حسين السيد ، وهو أكثر شُعراء الأغنية الذين لحَّن وغنَّى له عبد الوهاب ، ربَّما لأنه كان يفصِّل أغنياتٍ على مقاسهِ ، ويعبِّر له عن هواجسِه وعواطفهِ وأحاسيسه .
وفاتت جنبنا أو ” فاتن جنبنا ” على رأي عصام البغدادي ، حينما كان يجد بنتًا اسمها فاتن فيقول لها ” فاتن جنبنا ” ، منولوج درامي أو قصَّة أو حكاية درامية ، وكان هذا الشكل وقتذاك غير شائعٍ في الغناء المصري ؛ لأنه يعتمدُ على السَّرد أكثر مما يعتمدُ على الإيقاع الشِّعْري العالي الذي تتطلبه الأغنية عادةً .
لم تستطع وردة أن تكتبَ لي خطابًا غراميًّا ، واكتفت بنصِّ الأغنية الذي لا أدري كيف حفظته في وقتٍ قصيرٍ ، إذْ كانت الأغنية قد أذيعتْ في الأسبوع نفسه الذي استعارتْ فيه كتابَ التاريخ ، أهو خجلُ وردة وهي المتمردة الجريئة ، أم فشلها في التعبيرِ عن مشاعرها التي فوجئتُ بها وأنا الذي لم يعرف الحُبَّ إلا عندما دخلتُ مدرسة إمام ناصف الثانوية بالزرقا ، وتلك قصة أخرى سأعودُ إليها بالتأكيد يومًا .
ومن يومها وأنا أفرحُ كثيرًا إذا وجدتُ كتابًا فيه الكثير من الصفحاتِ البيضاء ؛ لأنَّني عادةً قبل أن أنتهي من قراءة الكتاب أكونُ قد ملأته شعرًا جاءني وقت القراءة.
…
صرتُ أحبُّ كثيرًا أغنية ” فاتت جنبنا ” الفقيرة في كلماتها ، الغنية فقط بصوت عبد الحليم ، وموسيقى عبد الوهاب التي تتسمُ بالثراء اللحني ، وقد حُملتْ على أكفِّ أكثر من مقامٍ مُوسيقيٍّ ، وما يميزُ موسيقى عبد الوهاب عادةً تعدُّد المقامات وتنوُّعها سواء أكانت أساسية أم فرعية في اللحن الواحد ، وهو يفعلُ ما لا يفعله الشعراء في القصيدة ، من حيث الغِنى الإيقاعي ، والتعدُّد النغمي في الجسد الواحد للأغنية .
ففي ” فاتت جنبنا ” سنجد مقام صبا ، حيث الآلات الموسيقية في شجنٍ وأسى وحُزنٍ ، وهو مقام لا ينشقُّ عن مقام ، ولا ينشقُّ مقامٌ ثانٍ منه .
كما نلقى مقام عجم ، وهو المقام الأساسي في اللحن ، وفيه يشعرُ المرءُ بما هو غير شرقيٍّ ، أما مقام نهاوند ،
فيمتازُ في الأغنية بطبقةٍ كثيفةٍ من الوجع والبكاء المكتوم .
وسنجد مقام كرد الذي يمتاز بالسلاسة والسهولة والانسيابية ، فهو رغم شرقيته لا يحتوى على الربع تون .
…
لم أسأل عن وردة من يومها .
لكن بقي منها رائحةُ الموسيقى ، وفراغاتُ الكُتب ، وفشلُ التعبيرِ عن الحُب .
أحـمـد الـشـَّهـاوي
ahmad_shahawy@hotmail.com