في دراسة جديدة بعنوان “تمثلات المسألة الأوربية في عهد بايدن: الجرمانية واتفاقية أوكوس”، نشرت في عدد شهر ديسمبر من مجلة ميريت الثقافية برئاسة تحرير سمير درويش وشغلت 25 صفحة، كشف الدكتور حاتم الجوهري أستاذ النقد الأدبي المنتدب بالجامعات المصرية، والحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية، والمشرف على المركز العلمي للترجمة بهيئة الكتاب، عن فكرة مهمة للغاية، وهي أن الثقافة الأوربية كانت تعمل وفق نسقين فكريين متوازيين يتواجدان في زمن واحد، مبينا أن ما بعد الحداثة وفلسفاتها انقسمت إلى شقين، فلسفات مشهورة وذائعة قال إنها للهامش مثل التفكيك والتجاور والتعدد الثقافي، وحدد نطاق هذا الهامش بالجامعات والأوساط الثقافية بوسائطها المتعددة ومجتمعات المهاجرين.
أما الشق الثاني من فلسفة ما بعد الحداثة والتي كانت تتواجد معها في الفترة الزمنية نفسها، فهي فلسفات ربطها حاتم الجوهري بالمتن والأبنية والمؤسسات الحاكمة في الغرب والتراتبات والتمثلات المتعلقة بها، وهي فلسفات التعالي والعنصرية والاستعمار الجديد، وضرب أمثلة عليها بفلسفات نهاية التاريخ وصدام الحضارات والاستشراق الجديد، مع فوكوياما وهنتتنجتون وبرنارد لويس.
وكان النموذج التطبيقي الذي استخدمه الجوهري للتدليل على فكرته، يتمثل في اتفاقية أكوس البحرية الموجهة ضد الصين، والتي وقعت على أساس عرقي بين الدول الأنجلو ساكسونية، في تأكيد على رغبتها في السيطرة والهمينة ومنع انتقال الصدارة الحضارية خارج الذات الأوربية.
وفي الدراسة نفسها أرجع الجوهري هذا النمط من الازدواج القائم على الفكرة ونقيضها والصراع الحدي بينهما، إلى ما أسماه “الذهنية الجرمانية” و”المسألة الأوربية” التي تستقر عميقا في طبقات وعي الذات الأوربية/ الغربية، بالإشارة إلى القبائل الجرمانية التي نزلت من الغابة وشمال أوربا متأخرا في القرون الميلادية الأولى، واستطاعت السيطرة على أوربا القديمة في اليونان وروما وشرق أوربا قرب نهاية القرن العاشر تقريبا، وأسست الكيانات السياسية لأوربا الجديدة/ الغربية في الغرب الذي يمكن أن نطلق عليها “الغرب الجرماني”.
حيث سيطرت قبيلتا “الأنجلو والساكس” على بريطانيا التي تمددت فيما بعد إلى أمريكا وأستراليا، وقبيلة “الفرنجه” على فرنسا، والقوط الغربيين على أسبانيا، والنورمان على روسيا، والألمان على ألمانيا، واللومبارد على روما وإيطاليا القديمة، واصبح لهذه الثقافة الجرمانية السيادة على مكونات “مستودع الهوية” الأوربي، بسمات تتصف بالعنصرية والبداوة والعدوانية والمادية والتشدد نتيجة خروجهم من الغابة والمجتمعات البدائية متأخرا.
وفيما يتعلق بقراءة الدراسة وتوقعها للنمط الاستشرافي المتعلق بالذات الأوربية وما قد يحدث لها من تصحيح حضاري مرتقب، توقعت الدراسة حدوث عملية “تصحيح حضاري” كبير للمتلازمات الثقافية المرتبطة بالذهنية الجرمانية، و”المسألة الأوربية” الراهنة في المتون والهوامش وفق مسارين رئيسيين، الأول هو فكرة استعادة “التقييم الاتفاقي العالمي” لفكرة “القيم” والأخلاقيات والدين والروحيات.
والثاني هو التخلي عن ظاهرة سياسية تمثل راسبا ثقافيا شاذا تحافظ عليه متون الذهنية الجرمانية شرقا وغربا حتى الان، وهي الظاهرة الصهيونية العنصرية المتطرفة وفرضها فرضا على العرب، حيث تفترض الدراسة أن التصحيح الحضاري لمسار الحضارة الأوربية وموجتها الثالثة، سيتطلب التخلي عن دعم العنصرية الصهيونية وقد يؤدي إلى تصدعها وتفككها أو تغيير مسارها من تلقاء نفسه.
وجاءت الدراسة في مبحثين هما؛ المبحث الأول: الذهنية الجرمانية وحضورها في عهد بايدن، وشمل ثلاثة عناصر هم: الذهنية الجرمانية وأثرها في الموجة الحضارية الأوربية الحالية، تفكك مستودع الهوية الجرماني: المكون الأنجلو ساكسوني، استمرار النمط الأنجلو ساكسوني: اتفاقية أوكوس وبايدن، والمبحث الثاني بعنوان: ما بعد الحداثة والذهنية الجرمانية والتصحيح الحضاري، وشمل ثلاثة عناصر هم: “الذهنية الجرمانية” بين القشرة الطبقية والعمق والهوياتي، ما بعد الحداثة والذهنية الجرمانية: فلسفات الهامش وجمود المتن، “الذهنية الجرمانية” وترقب “التصحيح الحضاري” الكبير.