كتبت سهير الطويل :
تحدث الدكتور خالد محمد عبدالغني في ندوة حول أدب نجيب محفوظ بمناسبة الذكرى 110 لميلاده والتي أقامها منتدى الشعر بحزب التجمع بالقاهرة أمس 12 ديسمبر 2021 ، وشارك فيها عدد من النقاد والشعراء منهم د. حاتم الجوهري والشاعر عيد عبدالحليم ، وجاءت كلمة الدكتور خالد محمد عبدالغني بعنوان (مثلما كتب نجيب محفوظ عما يعرفه) ليقول فيها :حين قال الشاعر المصري عيد عبدالحليم أن نجيب محفوظ كتب عما يعرفه طوال حياته وهي الحارة القاهرية ، وجدت أني مثله أيضا حين دخلت عالم الأدب ناقدا أو محللا نفسيا فلم أكتب عن نظريات النقد الأدبي ولكن كتبت عما أعرفه جيدا وهو علم النفس الإكلينيكي فقدمت دراسات حالة فردية – يعرفها أهل التخصص – لإبطال رواياته وكان مشجعي الأول لها منذ واحد وعشرين عاما هو الشاعر السوري عيسى الشيخ حسن،
ويستكمل حديثه قائلا :
ونشرت في هذا التيار التحليلي الإكلينيكي عدداً من الدراسات عن نجيب محفوظ بمجلة ضاد الصادرة عن اتحاد الكتاب المصريين، ومجلة الرواية وإبداع الصادرتين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومجلة تحديات ثقافية، ومجلة عمان الثقافية بالأردن، وجريدة أخبار الأدب بمصر ، ومجلة أدب ونقد وجريدة الشرق بقطر. وفي عدد من الصحف العراقية وقمت بجمع كل هذه الدراسات لتنشر بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة تحت عنوان ” نجيب محفوظ وسردياته العجائبية ” عام 2011. وبعده شاركت مع عدد كبير من النقاد في كتاب “نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل” عام 2012، تحرير أسامة الألقي . منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب. وفي 17 مارس 2012 عقد المجلس الأعلى للثقافة ندوة لمناقشة كتابي ” نجيب محفوظ وسردياته العجائبية ” تحدث فيها الفنان عز الدين نجيب والروائي سيد الوكيل والروائي منتصر القفاش. وكان من طرائفها – الندوة – أنهم جميعا كانوا يظنونني من خريجي كلية دار العلوم، وأني حاصل على الدكتوراه في اللغة العربية والنقد الأدبي ، وأن موضوع الكتاب كان جزء من رسالة الدكتوراه، وأنها تمت تحت إشراف وتوجيه من أستاذ في النقد والبلاغة. وطبعا أسعدني ذلك الظن، الذي تكرر كثيرا أيضا عندما نشرت بعض الدراسات في الشعر المعاصر، وبعض القراءات في الرواية العربية.
ويركز أكثر في مشروعه النفسي للأدب فيقول : وفي هذا كله حاولت تقديم قراءة للنص المحفوظي تهدف إلى إضاءة النص وإبراز الجوانب التي تتعلق بالتحليل النفسي والأسطورة، حيث التعريف أولاً بالمفاهيم النفسية التي تدور حولها القراءة وبعد ذلك تقديم التطبيق التحليلي للنص استناداً إلى تلك المفاهيم حتى لا تكون القراءة مجرد شرح وتفسير للنص بمجموعة من المفردات المغرقة في الغرابة. فعالم نجيب محفوظ من العوالم الروائية السحرية التي خلدت نفسها بنفسها من خلال النسق الفني المتفرد الذي انتهجه نجيب محفوظ في إبداعه الروائي، والتطور المتلاحق في بنية وصيغة الفن الروائي في عالمه، والعنونة عنده هي جزء لا يتجزأ من العملية الإبداعية الداخلية للنص، فهو يختار عناوين رواياته بعناية شديدة، ويطلقها على نصوصه برهافة وشفافية تكاد تصل حد الاحتدام ولعل هذا الاهتمام الكبير الذي أولاه نجيب محفوظ لعناوين رواياته قد منحها في المقام الأول هذا الحضور وهذه المكانة في ساحة الرواية العربية بل والعالمية أيضا، وهو يعتبر العنوان علامة وإشارة مهمة لهذا العالم الذي شيده وأحاطه بسياج من الرؤى، وجماليات التعبير، وسلاسة التفكير، وقوة المنطق، وجودة الحبكة، وغير ذلك من التعبيرات التي أصبحت علامة على هذا العالم الروائي الثري الخصب. وحتى صارت كل أعماله الروائية وعلاماتها المميزة المتمثلة عناوينها وفي الشخوص والأحداث والأماكن، لها حضورها الخاص وتوهجها النصي في ساحة التلقي والنقد كشخصية سي السيد التي أصبحت إشارة لسطوة الرجل في المجتمع العربي، والعوامة، والزقاق، والحارة وغيرها من العلامات المميزة لهذه المسيرة الروائية التي خرجت الرواية العربية بفضلها من المحلية إلى آفاق العالمية
وعن ملامح دراساته يقول : قدمت التحليل النفسي والمؤثرات الأسطورية ومعالم النرجسية وتجلياتها في شخصية رادوبيس والفرعون الشاب، وكيف انتهى بهما المطاف إلى تحقيق أبعاد الأسطورة وهي ” الحب والعزلة والموت”.
وأيضا دراسة حول شخصية نجيب محفوظ وعاشور الناجي في ملحمة “الحرافيش” باعتباره إسقاطا للذات والمصير، ومن ثم الاستبصار بالسيرة الذاتية في المستقبل والموت المؤجل، وهذا ما لم يتطرق إليه الباحثون في دراساتهم عن ملحمة الحرافيش، وفيه أيضاً تحليل نفسي لشخصية نجيب محفوظ وعاشور الناجي على اعتبار أن شخصية عاشور الناجي هي شخصية نجيب محفوظ، وقد استبصر نجيب محفوظ في تلك الشخصية بمصيره، وهذه الرؤية التحليلية تقدم جديداً يضاف إلى ما كتب عن حرافيش نجيب محفوظ ، فهو نفسه – نجيب محفوظ – لم يدرك ذلك الاستبصار ، حيث أنه يقول :” أنا موجود بقوة في رواياتي قشتمر فأنا الذي أتكلم وأروي ، وهناك أجزاء من هذه السيرة في المرايا والثلاثية وصباح الورد ، وقد اعترف بشكل محدد “أنا كمال عبدالجواد في الثلاثية”. والتحليل النفسي لآخر ما كتب نجيب محفوظ وهو “أحلام فترة النقاهة” الذي وبلا أدنى شك يعد عمله المعجز، ويعد آخر أشكال السرد في الأجناس الأدبية بعد المقامة والرواية والقصة، ومن ثم كانت العناية بنقديم التحليل النفسي لهذه الأحلام التي كشفت عن البناء النفسي لنجيب محفوظ ، وهناك بعد آخر من أبعاد إبداع نجيب محفوظ الخارق وتحليل أبعاد الاستبصار بالمستقبل وبخاصة بعض المشكلات المجتمعية التي تنبا بها نجيب محفوظ خلال تلك الأحلام كون ذلك التنبوء هو أية المبدع الحق إذ الإبداع في أعمق جوانبه هو قوة إلهامية بقدر ما هو قدرة على التنظيم والدقة ومواصلة الاتجاه وتوجيه الأداء ..الخ ولا أدل على ذلك من قوة استخدامه للعجائبي وربطه بالمشكلات الواقعية” فالأحلام الأخيرة للكاتب الكبير المبدع الراحل نجيب محفوظ والذي يعد استكمالا لكتاب أحلام فترة النقاهة حيث يحتوي على أحلام لم تنشر من قبل ، الاحلام هي الخلاصة. اللب والجوهر ..القرب والبعد والعمق وقمم الارتفاع ..الجهات الأربع في قلب بوصلة الحكي ..حصاد العمر فى سطور تلغرافية ..نجيب الذى يرى ما لا نراه بالحس والاستشعار والموهبة ..نجيب الكاتب القارئ لكف الأدب الذى أدرك السر لأدب الدخول فى قرن جديد ..أزرار السرعة .. الإيجاز فى قالب حلم ..العمر فى جملة والعصر فى سطر والسنة فى كلمة والمشوار بأدق تفاصيله ومنحنياته وآلامه وأوجاعه وأوهامه يسرده محفوظ فى بلاغة فائقة وقد ضمن محفوظ أحلامه في مؤلفه هذا مفاهيم العدالة الاجتماعية وثنائية الشعب والسلطة. كما يحتوي أيضا على تحليل نفسي لأحد الأحلام الحقيقية لنجيب محفوظ رواه محمد سلماوي بعد وفاة نجيب محفوظ وظهر فيه الدكتور حسين فوزي، وبيتهوفن وبعض اللصوص وقاطعي الطرق ، وكيف عانى نجيب محفوظ من أعراض اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة ” والصدمة هنا هي محاولة الاغتيال الأثيمة التي تعرض لها ” . ومحاولة للابحار في عقل نجيب محفوظ أثناء عملية إبداعه لرواية “اللص والكلاب”، حيث أراد ابتكار “أوديب” على النمط المصري، وقد تجلى ذلك في شخصية سعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب مستفيداً من التراث الأسطوري الذي اعتمد عليه نجيب محفوظ في رواياته الرمزية والتاريخية، بالإضافة لأسطورة الملك أوديب لسيفوكليس، ولعلي أخالف رأي لطيفة الزيات القائل “بأن سعيد مهران في اللص والكلاب شأنه شأن فرعون رادوبيس شخصية مرسومة من منظور هيجلي للشخصة التراجيدية ، شخصية تملى عليها خاصيتها النمطية التطرف والسير إلى آخر الطريق المر . ولا تملك سوى أن تفعل . فنجيب محفوظ تمثل الشخصية الأسطورية “أوديب” عند كتابة روايته، كما أخالف أيضا ما يقول به ممدوح النابي “من أن سعيد مهران بطل حاول تطبيق أفكاره في المجتمع المعاند له”، وهو في هذه الدراسة – ممدوح النابي- يجاري أغلب الدراسات السابقة التي اعتبرت الرواية صراع بين الإنسان صاحب المبادئ مع الثورة – 1952 – والتي سرقها البعض واستبد باسمها، وعندما درس رجب السيد تأثير السينيما على الرواية لم يأت على ذكر أية إشارة رمزية لسعيد مهران مع أوديب ( ). وفي هذا الكتاب أيضا محاولة لفهم البناء النفسي لدى البغايا كما ظهر لدى نفيسة بطلة رواية “بداية ونهاية” وكيف سبق نجيب محفوظ كل البحوث النفسية والتحليلية التي درست هذه الظاهرة، وهو ما يعد أحد جوانب عبقريته. وفي إجابة نجيب محفوظ على السؤال التالي : ” من يحلل أعمالك الروائية البارزة برؤية نقدية جدلية ، كبداية ونهاية واللص والكلاب وثرثرة فوق النيل وميرامار وليالي ألف ليلة وليلة يجد أنها تحمل في مضمونها وأحداثها ورموزها أحداثاً وقعت في مصر بعد أن كتبت الرواية وكأنها النبوءة مثل بداية ونهاية ينتحر الضابط حسنين الذي قاده طموحه لتغيير واقع الأسرة بطريقة فردية إلى مأساة ؟.
يرد نجيب محفوظ قائلاً :” الغريب أني كتبت رواية بداية ونهاية سنة 46/47 ونشرتها عام 48 وبعد الثورة كنت أجلس مع الناقد أحمد عباس صالح وكان يحللها نقدياً لي وكانت في تحليله كأنها نبوءة بما حدث وأنا أصغيت إليه وظللت أقارن بين ما يحدث فحصل لي ذهول للتطابق ولكن أثناء كتابتها قبل الثورة ما دار شيء من هذا في ذهني ، ولو تسألني الآن لماذا اخترت الكلية العسكرية البطلة لا أستطيع أن أجيب والأمر الذي لا شك فيه أني كتبت الرواية ولم أكن أشعر بأي درجة أني أتنبأ عن المستقبل ولذلك فأنا أستغرب بأن الأعمال التي تنتهي بتنبوءات كيف يبدعها صاحبها ، هذا يقتضي التأمل ولنفرض أننا نفسرها بلا شعور الكاتب فكيف يوحي له شعوره كل هذه الرؤى بينما عقله الواعي قد فوجئ مفاجأة كاملة بحركة الجيش يوم أن قامت ، وكان في شلتنا في قهوة عرابي بالعباسية عدداً من الضباط الأحرار لم يقولوا لنا شيئاً ولم أكن أتصور أن الجيش ممكن يتحرك مع وجود الاحتلال الإنجليزي فالحقيقة أنا لا أستطيع أن أدعي أن النبوءة جاءت بتخطيط ولكن المذهل فيها هو تطابقها مع الذي حصل.
كما أن نجيب محفوظ سبق كل الدراسات النفسية ذات منحي التحليل النفسي والإكلينيكي في القول بأن صورة الجسد والموقف الأوديبي من أهم عوامل دفع المرأة للبغاء.