أعلام وشخصيات فى حياة أبي
الأستاذ (محمد متولي سالم) (مدرس أول اللغة العربية) فى المرحلة الإعدادية ..
فى أواخر الخمسينات مرضت جدتي بالتهاب الكبد الوبائي ، وظلت طريحة الفراش بُناءً على أوامر الأطباء المعالجين نحو تسعة أشهر تقريبا ، وذلك لأن الطب كان فى ذلك الوقت غير متطور مثلما هو عليه الآن ، وقد عرفت -رحمها الله- هذا التشخيص مؤخرا من واقع التذاكر الطبية التى كان يكتبها المعالجون .. كانت هذه الفترة قاسية على أبي وكانت أثقال العمل فى المنزل ترهقه .. لأنه هو المنوط بها كلها من غسيل ، ونظافة ، وطهي ، ورعاية أعمامي وجدي .. فأعمامي .. عمي الحاج عوض أطال الله فى عمره ، وعمي الأساذ صلاح -رحمه الله- فى ذلك الوقت كانا صغارا ، وكان أبي -رحمه الله- هو الأكبر ، ولم يكن هناك بديلا آخر .. فالبنت وإن كانت صغيرة فهي أقرب للإستئناس على أعمال البيت أما الصبي أو الشاب فإن صبره محدود وسريعا ما يمل.
كان أبي يخرج من المدرسة مرهقا فيضع كتبه ، ثم يشمر عن ساعد الجد ليقوم بـ أعمال المنزل .. لم تكد تشفى جدتي من التهاب الكبد الوبائي ، حتى داهمتها الحمى الروماتيزمية التى أقعدتها تماما فترة طويلة ، وأثقلتها بالفتور والوهن والتعب المفصلي المبرح .. الذى جعلها لا تقدر على الحركة تماما ، وكان الطب غير حاسم فى علاجها .. كان الأطباء يأتون لعلاجها واحدا تلوى الآخر هذا يصف علاجا ، والآخر يضيف إليه ، وثالث لا يوافق على هذا ولا على ذاك ورابع يعارض الثلاثة السابقين عليه فى التشخيص .. والنتيجة بعد ذلك كما هى لا يحدث أدنى تطور أو تحسن فى الحالة.
فى هذه الحالة أصابت جدتي الغيبوبة أكثر من مرة ، فكانت تتوه عن الوعى تماما ، وكان أبي يصرخ فزعا وخوفا عليها ، ثم بعد فترة تفتح عينيها ، ويعود لها الوعي مرة أخرى .. ظلت جدتي تعانى من هذه الحالة أكثر من سنتين ، وقد مضىت عليها أزمات حادة كادت تودى بحياتها .. وكان إذا أقبل شهر رمضان لا تستطيع الصيام طبعا لأن حالتها لا تسمح بذلك ، كما أن هناك مفتي فاضل يدعى الشيخ محمد الدريني أفتى بجواز إفطارها مع الفدية .. بعد أن قرر المعالجون عدم تحملها للصيام .. كانت جدتي تدعى الله دعوات ضارية أن يكشف عنها البلا ، ويفرج عنها ما هي فيه .. واختلف جدي للعطارين ، وعمد إلى العلاج بالأعشاب والنباتات الطبية ، بعد أن أبدى الطب فى ذلك الوقت تقاعسا ملحوظا.
كانت جدتي تكتم تأوهاتها ، وتكبح ألامها لما ترى من الحزن على وجه أبي .. ولم تمر لحظة إلا وتعمل معاول الهدم فى كيان أبي لما يسمعه من أنات جدتي وشكواها المستمرة غيرالمقطوعة .. وقد ولد عمي الدكتور حمدى حفظه الله فى هذه الظروف القاسية شديدة الصعوبة .. وقد تعهده أبي بالرعاية إلى جانب الالتزامات الأخرى.
مع هذه المسئوليات الجسام أبدى أبي براعة فى المرحلة الإعدادية فكان متفوقا في الدراسة واحتل مركز الصدارة في كل العلوم فكان يحصل على الدرجات النهائية فى كثير من المواد .. وكان جدي لا يرضيه شىء من هذا!!.
إن الذي يرضيه .. أن يحصل أبي على الدرجات النهائية فى كل العلوم ، وهنا فقط يكون الموقف يستحق منه الإبتسامة والرضا .. كان أول امتحان لـ والدي فى الصف الأول الإعدادي امتحان الحساب وحصل فيه على 15 من 15 ، وفي اللغة العربية 57 من 60 ، وفي باقى المواد قريبا من هذا ، وإذا بـ جدي يتألم تألما شديدا على الدرجات الثلاثة التى فاتت والدي من اللغة العربية.
ويغضب جدي غضبا شديدا لأن أبي فاته فى التاريخ مثلا درجة على الدرجة النهائية وهكذا .. أما الدرجات النهائية التى يحصل عليها أبي فلا يعرج عليها ، ولا يلقى لها بالا .. لأنه فى نظره تعادل القصور فى الحصول على الدرجة النهائية فى باقى المواد فى هذا الإمتحان.
كان التفوق عند جدي غير التفوق في نظر الناس أو غير التفوق المتعارف عليه .. فإن الذي يحصل على 59 من 60 درجة لا يعتبر متفوق .. لأن التفوق عنده خط قاطع مثل حلبة السباق ، محدد ، واضح .. وهو درجة التفوق النهائية .. فمن قصر عن الدرجة النهائية فإنه يستوى مع من دونها بكثير ، لكن في نظره أن فرصة الوصول إليها تكون أقرب.
ضايق أبي هذا الشعور غير المتواتر ، وغير المعروف أو المتفق عليه بين الناس ، وظن فى جدي ظنونا كثيرة اتهمه فيها بالتشدد في غير مقتضى .. لكن أدرك بعد ذلك بمحض المصادفة أن جدي كان ذكيا فطنا .. إذ أنه كان يحكى إلى أصدقائه ما يخفيه عن أبي .. ويقول لهم : أن السيد ابني حصل على الدرجات النهائية في كذا وكذا .. ويظل يشرح لهم كيف أن أبي لم يخطىء فى موضوع الإنشاء ، وحصل على تسعة ونصف من العشر درجات المقررة .. ولكنه أمام أبي لا يبدى إلا عدم الرضا لأنه يطمع فى المزيد من التفوق والدرجات العلا.
وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب أرهق والدي ، وأتعبه نفسيا إلا أنه أفاده علميا ومنهجيا .. فقد كان أبي يعنى بتحضير الدروس سلفا قبل الحصة في اليوم السابق عليها ، وكان الأساتذة المدرسون يعرفون ذلك جيدا ، وكان أبي والحمد لله مشهورا بذلك بين زملائه.
كان أبي فى ذلك الطور منطويا على نفسه إلى حد كبير .. كان قليل الأصدقاء لا يتكلم في ما لا يعنيه ويميل إلى الجد والصرامة والاختصار . وكان مصروفه اليومي عشرة مليمات ينفق منها خمسة مليمات ويدخر الباقى وأحيانا يعطيه إلى تلميذ فقير .
كان أبي شقيا فى وجود المدرسين فى أثناء الحصص .. إذ كان يناقش الرأى بشجاعة ، ويسأل ، ويجيب عن أصعب الأسئلة ، وكان الأساتذة يقدمونه مكانهم ليشرح لزملائه ، ويناقشهم ، ويضربهم بالعصا مثل الأستاذ تماما الذى كان يجلس مكان أبى فى مقعده ، ويشرف على شرح أبي للموضوع .. وهذا بالطبع أثار ثائرة الكسالى من التلاميذ ، وأوقع أبي فى حرج ومشكلات لا تقل أهمية بل تزيد خطرا عن تلك التى حدثت فى المرحلة الإبتدائية ، وكانت كفيلة بالعراك المستمر .
كان يؤذيهم ظهورأبي بمظهر الفاهم المتفوق – لأن هذا يعرضهم للضرب المبرح الموجع بالمسطرة أو بالعصا على أطراف أصابعهم .. كانو يريدون منه أن لا يجيب على الأسئلة حتى يتساوى الجميع فيقل العقاب .. لكن أبي تمنعه نفسه الأبية أن يكون فى نظر المدرسين من التلاميذ الكسالى .. من ثم كان بمجرد الخروج من المدرسة يصارع هؤلاء الجهلة واحدا واحدا ، ويصارعونه هم رغبة فى إسكاته حتى لا يجيب على أسئلة الأساتذة فتزداد العقوبة عليهم .
أبي وزملائه كانوا كبارا نسبيا فى المرحلة الإعدادية .. لذلك كانت المعارك مع أولئك الكسالى صعبة المراس . وعلى الرغم من شقاء أبي بمصارعة هؤلاء الجهلة ، إلا أنه لم يعدل عن موقفه .. ولم يتراجعوا هم أيضا فالمعارك مستمرة وكلا الطرفين يصر على موقفه وعناده يوما غالبا ويوما مغلوبا.
كان أستاذ اللغة العربية الأستاذ (محمد متولى سالم) مثلا أو أستاذ اللغة الإنجليزية أو غيرها ينادى والدي بالإسم ويعطيه كشكول التحضير فيه العناصر الحيوية للموضوع ، ثم يأمره بأن يقوم بعرضه على زملائه ، ثم يناقشهم فيه فمن أخطأ يضربه والدي مثل ما يفعل المدرس تماما ، ولما كان أبي يخشى مغبة ذلك كان الأستاذ محمد متولى وغيره من الأساتذة يهدد والدي ، ويتوعده بقوله إن لم تضرب بقوة وجدية سأضربك أنا ..
كان هذا أيضا نوع من الظلم غير المقصود عانى منه أبي !! فإن المدرس كان يقصد بذلك إهانة أولئك الذين يقصرون فى تحصيل الدروس ، ولكنه يجنى على أبي فى نفس الوقت لأنه يثير الوغر والأحقاد بين أبي وزملائه .. وكان أبي يعتذر للمدرس عن عدم ضرب زملائه ولكنه كان لا يقبل الإعتذار بأى حال .. رحمك الله رحمة واسعة #أبى الحبيب
** الشخصية القادمة ستكون للأستاذ “محمد محمود الجيشى” .. (مدرس أول اللغة العربية) بمدرسة – على مبارك الثانوية – بدكرنس .. رحمه الله تعالى.