لا تزال جمعية الرواد الأوائل بمصر فى الفن التشكيلى حُبلى بالرؤى الجمالية والقصص الإنسانية، ومهما كُتب عنهم على مر الأجيال وغطَى الكثير من إبداعاتهم بشتى اتجاهاتهم وأساليبهم وظروف عصرهم، يظل ذلك قليلا جدا بالنسبة لما يستحقونه من إضاءات وتحليلات لمختلف الزوايا، ليس فى فن كل منهم فحسب، بل كذلك فى سيرتهم الشخصية المليئة بالأسرار والتحديات المجهولة أو المسكوت عنها، خاصة وأن كبار فنانينا منذ نشأة حركتهم أوائل القرن الماضى لم يعكفوا على تسجيل السيرة الذاتية لكل منهم، باستثناءات نادرة جاءت متأخرة فى أواخر القرن، مثل الفنانين محمد راتب صديق وعدلى رزق الله.
وسعيد الحظ من جيل الرواد هو من وجد بين ورثته كاتبا موهوبا مثل بدر الدين أبو غازى حين كتب سيرة النحات الأول بمصر الحديثة محمود مختار، أو مثل أحمد راسم حين كتب عن قريبه محمود سعيد، أو مؤرخا مثل محمد صدقى الجباخنجى حين كتب كتابا عن صديقه أحمد صبرى، وقد صدر آخر هذه الكتب الثلاثة فى ستينات القرن الماضي ولو لم يقدموا بهذا الدور لما أتيح لنا أن نرى حياة كل فنان من هؤلاء ككتاب مفتوح ظل مُلهماً للأجيال على مدي يزيد عن 60 عاما حتى اليوم.
وتحتفل “ذاكرة الفنون” فى هذا العدد بإضاءة مصباح جديد على هذا الطريق، عن حياة وفن أحد أعلام الجيل الأول بالحركة الفنية. وهو المصور والرسام راغب عياد (1892-1983)، بقلم ناقد شاب نقدمه بالسلسة لأول مرة، هو أحمد عبد الفتاح.
وعلى أهمية عياد كنقطة تحول هامة فى مسار الحركة الفنية الحديثة فى مصر، فإنه –بحسب علمى- لم يصدر عنه كتاب تحليلي يختص به وحده، ولم تهتم جهة ما بجمع ما كتب عنه متفرقا بأقلام النقاد على مر العقود السالفة فى كتاب واحد يدور حول الفنان من زوايا مختلفة.
ونلاحظ اليوم أن سوق الفن قد نضبت تقريبا من جميع الأعمال المهمة لجيل الرواد ومنهم عيَاد، وأصبح متحف الفن المصرى الحديث أدنى إلى أن يكون معرضا رمزيا لبعض اللوحات القليلة. وهى لا تفنى الدارسين ولا تشبع عشاق الفن.
(هذا إذا لم يكن المتحف نفسه مغلقا كما حدث فى عشر سنوات متصلة قبل هذا العام.)
لهذا فشعر بحجم الفراغ المعرفى والنقدي بل والذوقي للأجيال المتتالية من خريجى كليات الفنون وطلبة الدراسات العليا، ومن محبى الفن من الجمهور على السواء، لافتقارهم إلى المراجع والدراسات النقدية ومضاهاتها بأصولها من الأعمال المعروضة، وهو ما ينعكس فى تعميق أزمة الانتماء لديهم وفى اتصالهم بجذور الهوية المصرية عبر أعمال الأجيال السابقة، التى عكفت على تأصيل ملامح هذه الهوية.
ولا شك أن عيَاد هو حجر الزاوية لتأصيل البحث عن هذه الملامح فى مجال التصوير الحديث، ولا أبالغ لو قلت إنه بمثابة الأب الروحى والجسر الذى عبرت فوقه موجات الحداثة المصرية مقرونة بالبحث عن جذورونا وهويتنا، بدءا من جماعتى الفن المعاصر والفن الحديث أواخر أربعينيات القرن الماضي بروَادها العظام من أمثال حسين يوسف أمين وعبد الهادى الجزار وحامد ندا وسعد الخادم ويوسف سيده وجاذبية سرى، وكذلك تأثرت به خامات فنية مستقلة مثل حامد عبد الله وتحية حليم وعفت ناجى ومرجريت نخلة وإنجى أفلاطون وغيرهم… وصولا إلى جيل الستينيات من أمثال جورج البهجورى وعمر النجدى وطه حسين ومحمد حسنين على وسعيد العدوى وسعيد حدابة وغيرهم.
وإذا كان لعيَاد السبق فى استلهام جماليات “الموضوع الشعبى الجمعى” وفنون الرسم فى الحضارة المصرية القديمة وتزويجها بعناصر من المخزون العميق لثقافة القرية والمدينة، والخروج بمركَب جمالى متصالح مع اتجاهات الحداثة العالمية ومُناظر لها بحس حضارى، دون اللهاث لمحاكاة الاتجاهات الأوروبية التى تسَيدت العصر، فإنه فى الحقيقة أول من وضع – من بين زملاء جيله – أسس المدرسة التعبيرية، وبالرغم من أن “التعبير” كان قاسماً مشتركاً بين أبناء ذلك الجيل – مثل ناجى وسعيد وكامل وصبري – بطرق مختلفة، بل أراه أساسا ضروريا لنجاح أى عمل فنى حتى ولو كان تجريديا، لكن الأمر عند عيَاد يبدو مختلفا، فقد ربط التعبيرية بجوهر البناء الفنى، ليكون فى خدمة الحالة الشعورية أو الفكرة أو المعنى، ما دعاه إلى الإطاحة بعدة ثوابت أكاديمية فى التصوير، مثل المنظور الهندسي ثلاثى الأبعاد، مستعيضا عنه بتتابع الصفوف أفقيا على الطريقة المصرية القديمة، كما تلاشى التجسيم الاسطوانى بالظل والنور للمشخصات، ولجأ إلى التحريف للمرئيات الواقعية، وإلى المبالغة الحادة فى تناسب عناصر اللوحة مع بعضها البعض بغض النظر عما تبدو فى الواقع، لتأكيد الأهمية أو الفطرة، كذلك فضَل استخدام العارية بروح الأسكتش بغير إتقان احترافى منمق تأكيداً للحس العفوى، واستبعد وجود الفراغ فى اللوحة بأن حُشدها بالتفاصيل على طريقة الفن الشرقي وأخيراً: أشاع الحس الساخر ليكون العمل أكثر قربا من روح الواقع وتلقائيته وطرافته، حتى ولو ساقه ذلك أحيانا الى مذاق الكاريكاتير، الا أنه لم يتخلَ عن البناء المتوازن للتكوين.
وسوف نرى أن المؤلف – أحمد عبد الفتاح – قد بذل أقصى جهده لتقصَى جوانب هذا الفنان الذى فتح مسالك جديدة، مستعينا بما توفر لديه من دراسات نقدية، والأهم: ما يملكه من ذائفة نقدية واعدة، ومن حس لغوى سليم وقادر على التعبير عما يريد نقله إلى القارئ بسلاسة وفصاحة، وهى سمة باءت عزيزة المنال بين شباب اليوم حين يكتبون، ومن ناحية أخرى؛ أعطى مساحة وافية لاستعراض جهود عيَاد من أجل الارتقاء بأوضاع الحركة الفنية وانفتاحها على المجتمع والعالم الخارجى معا، وكأنه يقدم لنا النموذج للفنان المؤمن بقضية النهوض بوطنه، وليس مجرد القناعة بالتفرغ لإبداعه وحده، ذلك أن قدر الفنان فى بلادنا النامية أن يكون مبدعا ومقاتلا – فى آن – من أجل النهضة والتقدم.
* مقال رئيس تحرير في مقدمة “ذاكرة الفنون” عن راغب عياد – عدد مارس 2021
نقلا عن الموقع الإخباري الرسمي لهيئة الكتاب