(تبقى السيرة.. وتستمر المسيرة).. فى ذكراه:
علاء الديب.. ضمير حى.. فى زمن ميت!
” الحب أكيد موجود
بس انتوا اتْفقَوا ع السكة”
(المعادى ـ 2022 )
أقف هنا ـ هنا عاش ـ علاء الديب فى منزل رقم [11] شارع 73 المتفرع من شارع 10. آراه الآن من خلف السور فى هذه الحديقة الصغيرة يقف يداعب أوراق الشجر قبل أن يصعد بهدوء وصعوبة إلى البلكونة( الفرانده) الفسيحة حيث يجلس كثيراً يستمع إلى صوت أم كلثوم وهى تغنى: ( فكرونى/ كانوا ليه بيفكرونى؟ رجعولى الماضى/ بنعيمه/ وبغلاوته/ وبحلاوته / وبعذابه/ وبأساوته/ كانوا ليه بيفكرونى؟)!
صوت المذياع يتسرب من بين ظلال الحيطان، وتحت ضوء النهار الغارب. فى المسافة ما بين الحديقة والشُرفة يتمشى كما كان يفعل دائماَ منذ سنوات – أو هكذا أتصور – وقت العصارى وقبل المغارب! ” شعوري غداً.. سيكون كشعورى اليوم” – هكذا قال فى مذكراته ثم أكمل قائلاً: “أكره، أن أرى.. تلك الشمس المسائية.. الغاربة”! الآن يمشى ببطء، وهو يتكأ على عصاه التى يمسكها فى يده اليمنى. أما يده اليسرى فيقبض بها على ذكرياته الحزينة، وأحلامه الجميلة، وأيامه الطويلة التى عاشها هنا.. فى ضاحية المعادى( جنوب العاصمة).. وعاشها هناك فى دولة المجر وسط أوروبا ما بين سلوفاكيا والنمسا. والتى سيطرت عليها الدولة العثمانية من سنة 1541م إلى 1699م وكانت تُعد واحدة من المراكز الثقافية فى العالم الغربى أيام الزمن الغابر.
***
” عندى خطاب عاجل إليك
لكننى لا أجد الكلام
الصبر.. لا صبر له
والنوم.. لا ينام”
( شاطئ نهر الدانوب ـ 1970)
فى قرية صغيرة تقع على ذلك الشاطئ البعيد فى دولة المجر عاش علاء الديب لمدة 30 يوماً فى بيت من بيوت الكُتاب والفنانين على نفقة الدولة المصرية لكى يعمل بالترجمة. فى الصباح جاء إليه رجل عجوز وفى يده صحيفة إقليمية ناطقة باللغة الإنجليزية ثم قال له:
“صباح الخير.. يا علاء.
ـ صباح الخير يا خواجه
ناصر..( يقصد جمال عبد الناصر بالطبع) وعندما نطق الاسم بحروف مرتبكة، ونظرة ساخرة، سَكت ولم أُعلق.. رد العجوز على سؤالى الذى لم أسأله.. بطريقة لم أفهم منها وقتها هل كان سعيداً أو حزيناً. رد قائلاً:” ناصر .. كابوت”
ـ بالعربي.. ناصر مات”!
هنا فى هذا الجو البارد والشوارع الخالية ألقى العجوز ـ الذى لا يذكر اسمه ـ إليه بالخبر الصادم فى وجهه، وبالصحيفة المتواضعة أمامه ثم عاد من حيث جاء.. بعد دقائق وقف فيها مصدوماً، ومهموماً، ومسجوناً بين شوارع القرية الصغيرة الباردة، وبين حيطان الغربة القاتلة. وقف وحيداً وبعيداً عن شوارع القاهرة الصاخبة التى خرجت جماهيرها الغفيرة تبكى وتترنم وراء كلمات والحان عبد الرحمن عرنوس:
“الوداع يا جمال
يا حبيب الملايين
ثورتك ثورة كفاح
عشتها طول السنين
أنت عايش في قلوبنا
يا جمال الملايين
أنت ثورة أنت جمرة
أنت نوارة بلدنا
وإحنا لوعنا الحنين
أنت أنهار مية صافية
تسقي كل العطشانين
أنت قنديل الغلابة
تهدي كل الحيرانين
أنت ريحانة زكية
في قلوب الفلاحين
أنت جمعت بعزيمتك
النفوس الغضبانين”!!
الآن ماذا يفعل علاء الديب حيال هذا الخبر المؤلم والمحزن؟ يقول:” خرجت من البيت ولا أذكر هل أغلقت بابه أم تركته لحاله ثم درت فى شوارع القرية.. بعدما جلست فترة فى مقهى صغير خالى من الزبائن، عدت إلى مسكنى. فى الطريق وجدتنى أسأل نفسي:” هل علينا دائماً أن نحمل هذا السواد، والعذاب، والألم، حتى هنا. وماذا بعد.. تصورت هول المفاجأة، لم تكن ليالى حرب يونيو/ حزيران 1967 ولا النكسة / الهزيمة المظلمة بعيدة، إنها جُرح مقروح، وهذا الموت المفاجئ يضرب فى قلب الجُرح” الجرح الذي ما زال – حسب قوله – ينزف على الورق ومازال صوت أم كلثوم بجواره يردد …فكرونى!! وأنا مازالت أقف أمامه – ولا يرانى- فى الشارع الهادئ، إلا من أصوات عصافير فى طريقها للعودة إلى الشجر قبل حلول المساء.
***
” تكنس وترش الكلمة
المهجورة فى الحى
قتلوك من بره
لكن لسه الجوه.. حىّ”
(القاهرة – 1982)
” هذه أوراق حقيقية، دم طازج ينزف من جرح جديد. كتبتها كانت بديلا للانتحار” بهذه الكلمات القليلة، والحروف الحزينة، والمسيرة الطويلة التى تنزف دماً، لخص لنا علاء الدين حَب الله الديب ( اسم الشهرة علاء الديب ) حياتنا السياسية والثقافية فى كتابه/ مذكراته ( وقفة قبل المنحدرـ عام 1995) فمنذ بداية عمله (محرر صحفى/ كاتب) فى مجلة صباح الخير التى التحق بها عام 1960 وحتى رحيله عام 2016 – اليوم 18 نوفمبر / شباط ذكرى رحيله – وهو يحاول ـ وقد نجحت محاولاته ـ قدر استطاعته فى أن( يرُش) الكلمة فى الحى المهجور، ويقفز بالأمانى والأغانى فوق السور، ويكسر سيف الجلاد مسرور، فى وطن الحلم المكسور! لقد عاش علاء الديب كاتباً وناقداً وإنساناً بضمير حى، وقلم نزيه، وفكر مستنير، وضحكة ـ من فرط صدقها ـ تجعلك تشعر بالدفء، والحنين، وفرحة السنين، وهو يساند الكاتب- أى كاتب – إذا كان موهوباً ( والوسط الصحفى ـ إلا القليل منه ـ يقتل المواهب ويمشى فى جنازتها حتى المقابر) ويبتسم فى وجه الشاعر – أى شاعر – إذا كان موهوباً( والوسط الثقافى ـ إلا القليل منه ـ يفعل ما يفعله الوسط الصحفى بل ويفعل ما هو أسوأ منه) حيث تغلق المعابر وتسقط المنابر حتى لا تصعد ولا تعبر الموهبة إلى الضفة الأخرى! علاء الديب تكمن موهبته، وأصالته، وإنسانيته فى أنه لم ينافق الكلمة، ولم يتربح من وراء قلمه، ولم يلهث وراء جوائز الوسط الثقافى المعروف مصادرها، وبرامجها، وسككها ومسالكها، فى مصر وفى وطننا العربي الكبير! وكيف يتم الحصول عليها منذ مطلع الستينيات وحتى اليوم وبعد اليوم؟ فهو – أى الديب – لم يتعامل مع الصحافة، ولا مع الثقافة، ولا مع الإنسانية، وفقاً لنظرية: “”شيلني وأشيلك
دنا برضه فرحت لك
و أنا بتاعك يا بيه
و أعرف
ما أعرفش ليه؟
وكام عبد المعين
لابد ف المسؤولين
وأنا بتاع
كل حاجه
و دراعك اليمين”!
لأنه – ببساطة – كان يعرف أن الحياة قصيرة، والمسيرة طويلة، والسيرة – لكى تستمر طويلاً – وتعيش، وتكتمل، فهذا يتطلب من صاحبها أن يكون صادقاَ مع الكلمة، والناس، والوطن، والحياة.
هذه (الأوراق/ المذكرات) التى يجلس أمامها الآن فى البلكون التى صعد لها قبل قليل بعدما ترك فى حديقة المنزل صدمته يوم موت عبد الناصر التى عاشها بمفرده هناك فى المجر وسط الثلوج والايادى الباردة.
***
(واللى جوه القلب / كان فى القلب هو
رحنا واتغيرنا احنا/ إلا هو)
( يوليو ـ 1952 )
صدمة موت جمال عبد الناصر جعلته يتذكر وهو يقلب فى أوراقه (أوراق مثقف مصري ) سنة يوليو عندما جاءت قائلاَ:” كانت وما اعقبها من سنوات، خضراء، وردية. كل شئ فيها جديد! لكن ما ؟ أقصر ذلك الوقت. وسرعان ما تتبدل الفصول.. فى هذه السنة أصبح من حقى أنزل إلى القاهرة ـ وحدى ـ من الضاحية ( من هنا من المعادى) وأصبح فى جيبي(ابونيه) للمترو وقروش قليلة وأحلام تتسع العالم. ثم يقول:” بعدها بسنوات التحقت بالعمل بمؤسسة روز اليوسف الصحفية وانضمت إلى مجلة صباح الخير لكننى بعد سنوات أيقنت أن حرفة الصحافة أو الكتابة حرفة ناقصة فى بلادنا وفى عصرنا.. لماذا؟ لأنها حرفة فى حاجة إلى قوة- قوة من نوع خاص- تساندها وتدعمها. تجربتى البسيطة مع الإبعاد عن الصحافة والمنع من الكتابة لم تفقدنى الأمان فقط أو ثقتى فى مهنة الصحافة أو الكتابة ولكنها كشفت لى عن معنى وتراكم فى واقع حياتنا ونحاول دائماً أن تتجاهله وهو: أن المعنى الحقيقى لكلمة” مواطن” مازال مفقوداً.. ومازلنا نبحث عنه” !
***
“الحزن مرسوم على الغيوم .. والأشجار والستائر
وأنت سافرت ولم تسافر
فأنت في رائحة الأرض .. وفي تفتح الأزاهر”
(القاهرة – 1970)
مات عبد الناصر.. وجاء السادات فى ذلك العام البعيد. الآن مر ما يقرب من 40 دقيقة على وقوفى هنا…أمام منزل علاء الديب.. وهو فى شرفته أمامى بعدما فرغ من فنجان قهوته الرابع. بعد دقائق سأكون فى طريقي إلى شارع 9 – أسكن فى شارع قريب منه – متجهاً إلى محطة المترو. وهو – فيما يبدو لى – مازال يستمع لصوت أم كلثوم ويبحث بين أوراقه عن المواطن المفقود الذى تحدث عنه قبل قليل.. هذا المواطن الذى عاش فى الفترة من 1952 وحتى كتابة هذه الأوراق فى عام 1982 التى يقول فيها:” حكم مصر فى تلك السنوات رئيسان كانا من الضباط الأحرار، وأراد كل منهما أن يحقق وجهاً مختلفاَ لمصر. كان لكل منهما تاريخ، وتواريخ مختلفة، وكان لكل منا موقف مختلف منهما معاً، موقف معلن أو موقف جبان. كثيرون هم من دخلوا السجون، وكثيرون يحملون فى أجسادهم أو نفوسهم ..آثار التعذيب، أو القهر أو التشوه. كثيرون نعم؟ كثيرون من تلك الأقلية التى منها، أنا …ذلك المثقف، ابن الطبقة المتوسطة”!
***
” أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هى أشياء لا تشترى”
(القاهرة – 1977)
فى شهر نوفمبر من ذلك العام زار الرئيس السادات القدس.. وأقام علاقة مع إسرائيل…وكانت هذه الزيارة صدمة كهربائية صُدم بها الديب وعبر عنها قائلاً: ” كانت أول صدمة كهربائية فى حياتى.. وكانت شوارع القاهرة خالية يوم عيد الأضحى عندما ذهب إلى هناك. وكانت مليئة بالبشر عندما عاد. راقبت خطواته بالأقمار الصناعية فى التليفزيون، وأحسست أن عصراً مضى وعصراً يجىء..لكننى أنا كنت دائماً على حالتى مراقباً ومتفرجاً وشاهداً على كل العصور. لا أجد من يسألنى..! ولا أعرف – أنا – كيف أجيب.
لكن مناحم بيجن اليهودى العجوز قال فى مقدمة كتابه( قصة الأرجون/ أو التمرد ) قال:” كتبت كتابى هذا لشعبى، خشية أن ينسى اليهود.. مرة أخرى.. كما نسوا من قبل! إن هناك أشياء أثمن من الحياة وأفظع من الموت”! هذا ما قاله مناحن بيجن ويتذكره الآن علاء الديب وهو يغادر الشرفة إلى حجرته حاملاَ معه أوراقه، وأحلامه، واحباطه، واحزانه وعمره الذى يحمله فوق ظهره وسجله فى أوراقه. وقف منتصباَ وامسك بعصاه وبدأ يغادر الشرفة، وهو يلقى إلىّ من بعيد بنصف نظرة ونصف ابتسامة ولسان حاله يقول:” البشر ينسي. والأمم لا تنسي… والإنسان المتحضر هو من يبقى تاريخه حياً”. الآن يدخل إلى حجرته تاركا خلفه
صوت أم كلثوم الذى بدأ يخفت قليلاً وهى تنهى وصلتها فى الإذاعة التى تحمل اسمها:” فكرونى.. كانوا ليه.. بيفكرونى” فيما أنا تحركت فى طريقي إلى محطة المترو من أمام اللوحة التى تحمل كلمات بسيطة. تقول:( هنا عاش.. علاء الديب) فيما طارت فوق رأسي مع دخول وقت المغارب عصافير الحديقة الساكنة إلى السماء الرحبة! لتبقي السيرة.. وتستمر المسيرة…
خيرى حسن.
•• الأحداث حقيقية.. والسيناريو من خيال الكاتب.
•• ينُشر غداً الخميس 17 فبراير فى صحيفة الوفد.. (العدد الإسبوعى)
•• البورتريه:
الفنان / سامى أمين
الشعر المصاحب للكتابة للشعراء:
أمل دنقل
نزار قبانى
أحمد فؤاد نجم
عبد الرحمن الأبنودي.
المصادر:
كتاب/ مذكرات علاء الديب(وقفة قبل المنحدر / من أوراق مثقف مصرى/ طبعة الشروق – 1995.