كتب الكاتب والشاعر عبد المحسن يوسف:
الكاتبة المجرية أغوتا كريستوف التي ارتحلت إلى سويسرا بسبب الحرب كما ارتحلت إلى منفى لغوي جديد هو اللغة الفرنسية ، لها في لغتنا العربية سبعة كتب ، ست روايات هي : ” الدفتر الكبير ” روايتها الأولى التي ترجمت إلى أكثر من أربعين لغة في العالم ، و ” أمس ” الرواية الجميلة التي قرأتها منذ سنوات مترجمة بحبر المترجم الرائع بسام حجار ، و ” سيان ” ، و” البرهان ” ، ” الكذبة الثالثة ” ، ” وأينك يا ماتياس ؟ ” .. فرغت للتو من قراءة سيرتها الجميلة المقتضبة التي من أبرز صفاتها التحرر من غواية الثرثرة وشهوة الكلام ( إذ جاءت في ٦٤ صفحة فقط ) ..في هذه السيرة التي بعنوان ” الأمية ” تتحدث أغوتا عن طفولة مليئة في قرية صغيرة مؤثثة بالحقول ، وعن ميل مبكر للحكي والسرد منذ تلك السنوات القليلة الغضة ، عن شغف القراءة ( كانت تجيد القراءة وعمرها أربع سنوات ، لقد كانت مصابة بمرض اسمه القراءة – حسب قولها – إذ تلتهم كل ما تقع عليه يداها أو عيناها من صحف وكتب وقصاصات ملقاة على الطريق ) ، عن الأسرة وشتاتها المرير بين المعتقل والمنفى ، عن أب أصبح معتقلا وهو الذي كان المعلم الوحيد في تلك القرية الصغيرة إذ يضخ النور والدفء فيما يقوم بتعليم جميع الفصول في قاعة كبيرة واحدة وأم بعد حياة هانئة قصيرة تربي الأطفال و الأمل وتعتني بزراعة الخضراوات في فناء البيت وجدت نفسها فجأة بثوب رث وحذاء مهترئ تعمل في مصنع كريه وكل مهمتها في الحياة تعبئة السم في الآنية ، عن تلك المدرسة الداخلية الصارمة التي تشبه ثكنة عسكرية أو إصلاحية أو ديرا حيث تعيش وتدرس تلك الفتاة التي اسمها ” أغوتا ” وهي بكامل أشواقها وأحلامها المهترئة مثل حذاء تركته عند الإسكافي زمنا لأنها لا تملك الثمن فيما تمارضت عنوة كيلا تذهب إلى قاعة الدرس حافية في عز البرد والريح والمطر ، عن الفقر والبؤس والجوع والطعام الردئ ، عن ضراوة الحرب وقسوة المنفى والارتحال الممض من لغة إلى أخرى ومن ثقافة إلى سواها وإعادة رحلة التعلم في سويسرا من البدايات الأولى حيث الإحساس بوطأة أمية من نوع آخر وهي تعيش في مجتمع جديد وحياة جديدة ولغة أخرى غير تلك التي تعلمتها وكتبت بها بضع قصائد في بلدها المجر وألقت بها خلف ظهرها فيما بعد حين شقت لها طريقا جديدا رائعا في السرد ، عن العمل و تحديدا قسوة العمل في مصانع الساعات السويسرية الأمر الذي جعلها تتمنى العودة إلى بلدها وتمضي عامين في السجن – مدة عقوبتها – على البقاء عشرين عاما في هذا الجحيم السويسري .. هذه السيرة المترجمة بحبر الأنيق محمد آيت حنا و الصادرة عن ” دار الجمل ” مكتوبة بلغة رشيقة ، بسيطة ، ومتقشفة ، وبعبارات قصيرة مليئة كما هي عادتها في جل كتاباتها السردية..