كلما حاولت الكتابة عن الحرب، أجد نفسي منقادة صوب حكاية شجرة توت داخل منزل جيراننا. شجرة ضخمة، يانعة وخضراء أخضر الشاعر لوركا في قصيدته الشهيرة. شجرة توت مألوفة، لكنها تواري تحتها حكاية بشعة ومخيفة عن الحرب. بدأت بصرخة زوجة صاحب البيت حين رأت جسد زوجها يتدلى من الشجرة. تلك الصرخة التي تشبه طلقة مسدس في الرأس ستعلق بأذني لأيام، وستتبعني هذه الفاجعة ككلب وَفِـي بقية حياتي، لتتجمد بداخلي، إلى الأبد، صورة تجمهر الجيران وأطفالهم يتأملون سقوطه على الأرض مثل فاكهة فاسدة.
كان ذلك المحارب ذا طبع سيء على الدوام، فظا ومتقلب المزاج، لا أحد يتوقع ردود افعاله. أحيانا يسمح لنا بمشاركة أبنائه الأرجوحة، ومرات كثيرة يطردنا من بيته دون سابق إنذار. وبسبب سوء طباعه، ردد الجميع خلف ظهره أنه يستأهل كل ما حدث له في تلك الحرب التي بترت ساقه، ونقشت على وجهه ندوبا لا شفاء منها. لقد حصل على الوجه الذي يستحق، يقولون. لا أحد فهم أن الحرب، وإن لم تقتل المرء، فهي تعيده إلى حياته مثل خرقة بالية وقد استعمل بطريقة سيئة لدرجة أن حياة المدنية الهادئة لا تعود ملائمة له. قضى ليال كثيرة تحت شجرته يشرب ويلعن محدقا في ساقه الخشبية التي عوضت تلك التي فقد في الحرب، وقد ثبت عند نهايتها قطعة مكورة من المطاط الأسود جعلتها تبدو مثل رجل كرسي، وكان مطلوبا منه أن يقبل بها قدما بديلة.
كان الرجل واحدا من الجنود المغاربة الذين خاضوا في أوحال حرب الهند الصينية دون وجل. ظن الجميع أنه حصل على نهاية سعيدة بالعودة منها ناجيا، مع أن لا وجود لنهاية سعيدة للحرب.
بدا ذلك المحارب القديم وهو يتأقلم مع حياة السلم، وكأنه يوشك على التوصل إلى نظرية كاملة ومحكمة حول طريقة نسيان فظاعات المعارك، والتسامح مع الكآبة التي زرعتها الحرب في قلب محارب وهو يتأمل المعاش الهزيل الذي ألقت له به فرنسا من بعيد، كما لو أنه مجرد كلب أجرب جائع. كآبة أن تحل شاحنة ضخمة في بلدة نائية عالية، وتشحنه مثل كيس قمح إلى بلاد بعيدة لا يعرفها بين جنود لا يعرفون لغته، ولا يشترك معهم في أي شيء. جنود خطفتهم آلة القتل المنظمة التي تسمى الجيش، لكنهم ظلوا أحياء في قلبه يسقونه الأسى حتى نهاية عمره. تلك الكآبة التي تعني أيضا أن يعيش المرء حزنه بسعادة، كما قال فيكتور هيجو. لم ينتبه أحد للأسى الذي ظل ينهشه ويعجزه عن الاستمرار في العيش بعد كل البشاعات التي حدثت أمامه، بعد الأطراف المبتورة، والجروح المتعفنة، والجثث التي رآها تتحل أو تدفن فرادى أو جماعات.
ولما بدا للجميع أنه تصالح مجددا مع حياة السلم الصامتة، كما قد يحدث التصالح بين زوجين في كل زواج سعيد. ستتدلى جثته أسفل شجرة التوت.
في الحقيقة، الكتابة عن الحرب مغرية جدا. لكنها مع ذلك تضل مجرد تجديف نزق في الفراغ. إذ كيف يمكن الكتابة عن الحرب التي لم يخض المرء فيها معركة واحدة؟ فأغلب الجنود الذين شاركوا في الحروب، وتقدموا الصفوف الأمامية داخلها حين يسألون عنها تتحد إجابتهم عند فكرة واحدة: الحرب شيء مختلف عن تلك التي دونت في الكتب والتقارير أو صورت في الأفلام والروايات. الحرب شيء آخر، يكررون هذه الجملة بأسى واضح في أصواتهم، وداخل عيونهم يمكن رؤية حرب أخرى نشبت داخل أرواحهم حتى فاضت بدمع خفيف يحاولون مداراته بصعوبة واضحة.
أشاهد الأخبار وأتابع التقارير التي تتلألأ في فم المحللين لامعة واضحة مثل ماسة. أحدق في الصور وأندهش من أصوات المراسلين الحربيين وهم ينقلون أطوار الحرب بحماسة تشبه الطريقة التي ينقل بها المعلقون الرياضيون مباراة كرة قدم. وحين أظن أنني فهمت كل شيء، أخرج خاوية اليدين من أي حقائق. الحرب الحقيقية تقع في مكان آخر لا نراه، ولا مقدرة للصور والتقارير الصحفية على نقلها. الحرب التي قد تنتهي ببشاعة في حي صغير لا يظهر على خريطة العالم توجد بداخله شجرة توت ضخمة تتدلى أسفلها أرجوحة يتناوب الأطفال عليها بصخب وبهجة قبل أن يستعمل جندي معطوب حبلها ليعلن فشله في التعافي من المعارك التي لم تضع أوزارها إلا في المعاهدات والأوراق الرسمية.
لذلك، فكل محاولة للكتابة عن الحرب لن تعني سوى تدوين ما نجهله كما تقول الشاعرة فيسوافا شيمبورسكا :
بعد كل حرب…
أولئك الذين رأوا اسباب ماحدث
عليهم أن يخلو المكان لمن
يعرفون قليلا
لمن يعرفون اقل من القليل
وفي النهاية لمن يعرفون مايساوي لا شيء..