منذ زمن غير قليل بدأنا نقرأ ونسمع من كثير من الفنانين التشكيليين وبعض الذين يكتبون عنه وكذلك المهتمين به أن واقعه قد أصابته ضربة قوية اهتزت منها مقوماته وارتبكت صورته التي كانت حلم وأمنية الفنانين التشكيليين على امتداد الوطن العربي رغبة في أن يصيرله خصوصية بمفاهيم حديثة فوضعوا له التصورومنحوه الحرية في اكتشاف منافذ جديدة له ينطلق منها مواكبا للفنون في بلاد العالم الواسع ولعل أوروبا وأمريكا هما الأكثر حظا في انفتاح عالم الفن التشكيلي على مقومات العصر الحديث وكان لهما السبق في تكوين شكله وسيطرة مدارسه بأسماء من فنانين استطاعوا أن يوجهوا دفته نحو عالم أوسع وأكبر حين خرجوا من عباء المدارس الفنية التقليلدية فوجدوا في العلم وفلسفاته مخارج واضافات حكمتها فلسفات القرن العشرين وطبيعة سرعتها واكتشافاتها التقنية في الوقت الذي كان نفر قليل من فناني الوطن العربي قد ذهبوا إلى هذه المناطق المفتوحة على مصرعيها فعمل كل بقدره على أن يتوافق مع معطيات العصر الحديث والنهل من مدارس هذه العالم التي لم يعرفها وطننا العربي بل نكاد نقول بأنه كان قد غَيّبَ القيم الجمالية الحياتية بسطوة من خارج عالم الفن أبعدت الفكر المستنير عن أن يجعل من الفنون واحدا من القيم التي يرتقي بها المجتمع في نفس الوقت الذي بهتت فيه صور الجمال التي تطلقها الروح الحرة بتعبيرات تتفق مع مكنونات النفس الإنسانية والتي يتشكل منها وجدان الفرد في المجتمع العربي.
هؤلاء الفنانين حين عادوا إلى بلادهم حاولوا شق طريق وعر اجتمعت فيه الكثير من المعوقات وسط ثقافة فنية ضعيفة جدا في محاولة لترسيخ الخبرات الفنية التي اكتسبوها وفتحوا بها المجال أمام من بدأ يتلمس طريقه في عالم الفن التشكيلي من الموهوبين الدارسين ومع الوقت الغير قليل نمت حركات تشكيلية حملت أسماء مدعومة بعرض لأعمال هؤلاء الفنانين لاقت بعضا من الترحيب وخاصة في وسط المثقفين والأثرياء الذين في العادة يتفاخرون بما يمتلكون من أعمال فنية.
حين استتب الوضع التشكيلي وبدأ الاهتمام فُتحت كليات ومعاهد متخصصة بفروعه تعرف المتلقي المهتم على سماتها ومدارسها وظهرت نتائج مبشرة بحركة فنية نظيفة بعيدا عن أي معوقات ولعل السبب في ذلك كان هو الرغبة الحقة والتفاني من قبل الفنانين أنفسهم بأن يكون لهم دور في ثقافة الوطن الفنية رغم أن البلاد العربية كلها لم تكن قد استقلت عن الدول التي كانت تستعمرها.
قد يكون واقع الوطن حين ذاك قد أفاد الفنون بشكل عام حيث أنه من المعلوم بأن عددا من الفنانين الأوروبيين قد وفدوا إلى البلاد العربية بغية اكتشاف فنونها التقليدية وطبيعتها الشرقية التي ارتسمت صورتها في خيالاتهم من خلال قصص ألف ليلة وليلى والحديث عن جمال الصحراء والبادية أو التعرف على الثقافة الدينية حيث أن الوطن العربي مهد الأديان والحضارات القديمة من فرعونية وبابلية وفينيقية واسلامية ومسيحة وغيرها مما يتطلع إليه الباحثون عن المعرفة.
حين تشكل الوعي العام وصار للفنون مكانة في المجتمع بشكلها الحديث واستقر في وجدان العامة أهمية هذه الفنون برعاية رسمية من الدولة بعد أن استقلت وتشكلت فيها وزارات للثقافة وجمعيات واتحادات ونقابات للفنانين وكثرعدد الفنانين الذين اجتهدوا على أن يصنعوا فنا مميزا فكان البحث في التراث من أول ما بدأوا به فنقبوا فيه واستخرجوا قيمه الرفيعة وصَدّروها إلى لعامة في أعمال بشكل وقيمة جديدة توافق طبيعة زمانهم فحققت نجاحا تم بعده تثبيت هذه القيم وصارت مرجعا.
ازداد عدد الكليات والمعاهد الفنية في جميع التخصصات وبالتالي ازداد عدد الخريجين منها وحملوا لقب فنان !!
من هنا بدأت صورة جديدة تتشكل في وضع الحالة التشكيلية فبعد أن كان الاجتهاد في الوصول إلى صيغة موحدة تجمع كل جزيئات البحث الفني في كل بلد ،صار التنافس الشرس بين الفنانين وعلت الأنا في كل بلد تريد أن تستحوذ على لقب الريادة وخرجت الصورة الجميلة من اطارها الذهبي لتتلقفها أيدي غير نظيفة وتتقاذفها بعيدا عن مجراها الذي رُسم لها.
ظهرت القاعات الفنية الرسمية وتبعها في وقت الانحطاط ظهورطوفان من القاعات الخاصة أو أدعياء يديرها(سماسرة أو تجار) دون وعي بالقيم الفنية الرفيعة في أكثرهم وانصب اهتمامهم على استغلال الحالة المتردية العامة في المجتمعات العربية حين كثرت فيها الاضطرابات والحروب فوقع الفنان الجاد وغير الجاد في مصيدة هؤلاء السماسرة وبدأت المساومات الذي نجم عنه هبوط في القيم الفنية تحت وطأة حاجة الفنان الذي لم يشعر ببصيص أمل قادم في غياب مصداقية من الفنان والناقد وصاحب القاعة حتى على المستوى الرسمي فقد دب الانقسام بين الفنانين وهذه الصورة ليست قاصرة على بلد واحد بل نكاد نستشعرها في كل البلاد العربية.
بمراجعة بسيطة وتأمل سنتأكد بأن حال الحركة التشكيلية العربية لم يعد يعني حتى الفنان نفسه، فالوضع يقول: أللهم أنا..اللهم نفسي ومن بعدي الطوفان إلا من رحم ربي..!!
هذا يأخذنا إلى قراءة المشهد كله على امتداد الوطن العربي من شرقه إلى غربه إلى وسطه وهذا هو التقسيم الذي يجري فيه وضع صورة الحركة التشكيلية.!
في الشرق العربي : يوجد رأس المال الذي بدأ يتدخل بشراسة في وضع صورة الفن التشكيلي ومقاييسه المادية والمعنوية بسطوة المادة وتوفيرالمناخ لهذه الصورة بأن تتصدر المشهد العام مجتمعيا وإعلاميا بميزانيات مفتوحة ظهر من خلالها بعض أسماء من فنانين لا يعنيهم أن تتقدم الحركة التشكيلية أو تتبلور لها صورة تنبثق مما كان يُجهز لها منذ سنوات صارت بعيدة وكما تقدم: أنا ومن بعدي الطوفان..!!
في الغرب العربي :يتأرجح بين ما هو متوارث وموجود وبين ما هو وافد بقوة من الدول الغربية القريبة،وهذا محمود لو تم وضعه في مكانه الصحيح وفي جو ثقافي صافي وخال من التبعية والشللية،لكنه غير ذلك ليبقى تكرارا واجترارا لا يحقق تميزا أو يعود إلى ما تم البدء فيه من منهجية خلق فن تشكيلي عربي..!
أما دول الوسط العربي: فقد اجتمعت فيها الحالتين السابقتين مضاف إليها أنها البلاد الأكثر كثافة في العطاء التشكيلي ولدى الفنانين فيها القدرة الأكبرعلى الأخذ والعطاء وتبادل الخبرات مع بعضها وكذلك مع دول الخارج و محصلتها الثقافية الفنية تسبق ما وصل إليه الشرق والغرب العربي من تحصيل وعطاء، وفيها يلتقي سماسرة الفن وفنانين بالوكالة من أصحاب النزعات التجارية الأمر الذي يجعل النهوض بحركة تشكيلية واعية أمرا متعسرا بعد أن اتسعت الهوة بين الفنانين الجادين أنفسهم أيضا لاعتبارات غير محدودة وفي غياب الجهات الرسمية الواعية بأهمية الثقافة التشكيلية فتدنى مستوى التحصيل الثقافي الفني لدى العامة وهي ظاهرة تشمل كل البلاد العربية ويبدو أنها ستبقى لفترة طويلة بعد أن تشرذمت البلاد وانغلقت على نفسها إلا في حالات معينة بعيدا عن عالم الثقافة والعلوم النافعة..!!