نشر الدكتور حاتم الجوهري أستاذ النقد الأدبي والدراسات الثقافية المنتدب بالجامعات المصرية، والمشرف على المركز العلمي للترجمة بهيئة الكتاب، دراسة في عدد مجلة ميريت لشهر يوليو برئاسة الشاعر سمير درويش، بعنوان: المسألة الأوربية وغزو أوكرانيا.. حرب الجرمان البرية والجرمان البحرية، ويطرح فيها تصورا للجذور الثقافية لصعود “الأوراسية الجديدة” وغزو روسيا لأوكرانيا، من زاوية كلية تعتبره جزءا من “المسألة الأوربية” وتفجر تناقضاتها وعُقدها الثقافية التي لازماتها ولا تزال تلازمها حتى اللحظة الحالية.
إذ تطرح الدراسة أن ما يحدث الآن هو استمرار لفكرة الصراع على نهاية التاريخ والانتصار المطلق المتخيل بين طرفي الذات الأوربية والنظرية المطلقة، بين ورثة هيجل الجرماني (المثالية الرأسمالية المطلقة) وورثة ماركس الجرماني (المادية الشيوعية المطلقة)، ولكن هذه المرة بشكل أكثر تجذرا في بناء الاستقطابات وعواملها الثقافية المعلنة، فرغم أن “النظرية المطلقة” ووهم “نهاية التاريخ” وذروته ظهرت في ألمانيا بين هيجل وماركس، إلا أن المسار التاريخي جعل النظرية المطلقة المادية الشيوعية تذهب شرقا إلى الجرمان الشرقيين في روسيا (جرمان البر)، وجعل النظرية المطلقة المثالية الرأسمالية تذهب غربا إلى بريطانيا (جرمان البحر) التي توسعت مستعمراتها حتى ظهرت أمريكا وحملت اللواء.
فما تطرحه الدراسة أنه رغم سقوط قشرة الصراع بين قطبي النظرية المطلقة، المادية الشيوعية والمثالية الرأسمالية (ورثة هيجل وورثة ماركس)، إلا أن التطرف الجرماني مازالا حاضرا وما يزال الصراع قائما على فكرة النظرية المطلقة ونهاية التاريخ بين جرمان البر الشرقيين وجرمان البحر الغربيين، حيث يحاول “حلف الأطلنطي” باعتباره الذراع العسكري لليبرالية الديمقراطية أن يتمدد وينتشر في القرن الحادي والعشرين، لتقوم روسيا بتطوير نظرية جديدة لمواجهته تقوم على استقطاب هوياتي وديني -بعد هزيمتها في قشرة الاستقطاب الليبرالي/ الشيوعي- قدمها المفكر “ألكسندر دوجين”، لكنها تعيد إنتاج الاستقطاب الثنائي في المسألة الأوربية نفسها، حيث ترى العالم عبارة عن صراع مطلق ومركزي بين ما تسميه “قوى البر” التي تضم روسيا وبعض قوى أوربا وآسيا من هنا تسميها “الأوراسية الجديدة”، وذلك في مواجهة “قوى البحر” الأطلسية التي تضم دول غرب أوربا وأمريكا، في حين تذهب الدراسة لعمق ثقافي أبعد وأكثر وضوحا لتوصِّف الأمر كصراع بين الجرمان البرية والجرمان البحرية، باعتبار روسيا ممثل الجرمان البرية وأمريكا ممثل الجرمان البحرية.
وهنا تتعمق الدراسة في رصد “المسألة الأوربية” وحضورها في التمثل الأوراسي الجديد، لتقول بأن قوى البر (شرق أوربا) وقوى البحر (غرب أوربا) ليست سوى تمثل أو صياغة مستحدثة للصراع الجرماني القديم الذي سيطر على أوربا، حينما تاريخيا اتجهت القبائل الجرمانية الشرقية إلى روسيا القديمة، وسيطرت القبائل القبائل الجرمانية الغربية على الامبراطورية الرومانية وبريطانيا وشبه الجزيرة الأيبيرية، ليسيطر العنصر الجرماني على الموجة الحضارية الحالية للذات الأوربية بعد الموجة اليونانية الأولى والموجة الرومانية الثانية.
ومن ثم فإن هذه الدراسة تخالف كل التحليلات العالمية، وتعتبر أن “المسألة الأوربية” مستمرة باستمرار صراعها على وهم امتلاك “النظرية المطلقة” الذي تربطه بالذهنية الجرمانية، وتطرح الدراسة فرضية أن هناك بديلا ثقافيا وحيدا لها ظهر في القرن الحادي والعشرين، لا تمثله الصين لأنها تنتصر للمسألة الأوربية القديمة في الماركسية والجديدة مع الأوراسية الجديدة، وإنما ذلك البديل هو المفصلية الثقافية العربية الكامنة التي صاحبت الثورات العربية وخرجت بشعارات تتجاوز اليمين واليسار العربيين، وتعتبر الدراسة أن تبني البلدان العربية وتحولها الطوعي لاختيارات الشعوب العربية وثوراتها هو بديل لم تفت فرصته بعد، وذلك بعيدا عن توظيف الاستقطابات السياسية بين اليمين واليسار العربيين كما حدث لتشويه حلم الشعوب بالتغيير.