في هذه الرواية يظهر د/خالد عبدالغني كأحد أبطالها وذلك بعد نقلة نوعية في مراحل إبداعه العلمي. وهذه الرواية للمؤلف العراقي “علي لفتة سعيد”. كانت صدرت فى شهر أبريل٢٠١٩م وهي تحكي قصة مبدع عراقي هو محسن الذي قضى فترة شبابه في الخدمة العسكرية وعمل بعد ذلك فني كهربائي ثم تركها ليعمل بمهنة حفار القبور في مدينة كربلاء العراقية وتركها أخيرا ليعمل موظفا في مؤسسة لرعاية الأيتام ويأتي القاهرة لمناقشة رواياته و الاحتفال بصدور عدد منها وفي هذه الزيارة التي تكررت أربع مرات، التقى بعدد من النقاد المصريين منهم د/خالد عبدالغني الذي ناقش وكتب عن سبع روايات لمحسن في اتحاد الكتاب المصريين بالزمالك وجريدة الحياة المصرية وغيرهما من الأماكن، ونشر عنه دراسات بالصحافة العراقية والمصرية .ويأتي د/خالد عبدالغني كناقد يعبر عن اتجاه جديد في الدراسة النفسية في الأدب وعلاقة مميزة لأعمال أديب نوبل نجيب محفوظ. حتى أنه يُعد مؤسس التيار التحليلي النفسي الإكلينيكي للأدب .
هذا الوجه أحد أوجه الدكتور خالد عبدالغني، فهناك وجه آخر يتعلق بدراساته في علم النفس الإكلينيكي والتحليل النفسي التي بلغت عددا كبيرا منشورا في العديد من المؤتمرات الدولية والدوريات العلمية المحكمة ويظهر هنا د. خالد عبدالغني ليس كناقد فقط ولكن كصديق لمحسن يتناقش معه في العديد من القضايا الإنسانية الكبرى والفكرية المهمة ليبين لمحسن دوافع كتابته الأدبية والنقدية لتتعمق الصداقة بينهما أكثر وأكثر ليكون عينا مصرية تسكن فيها العراق.
ويقول د. خالد عن علي لفتة سعيد:
“اثنان نالا من اهتمامي ما لم ينله آخرون، “نجيب محفوظ وعلي لفتة سعيد” فمنذ قرأت علي لفتة سعيد روائيا وشاعرا وقاصا وناقدا ومسرحيا أدركت أن ثمة شيئا في أعماقه يحركه وإنها لآية المبدع الحق والإبداع الحق الذي يأتي من عمق الشخصية فيكون متعدد الجنبات وقد شبهته في البداية بيوسف إدريس كما ذكرت ذلك في كتابي النقدي عنه “على لفتة سعيد وعالمه الروائي” ولما تعمقت في ذاتي وجدتني كتبت عنه سبع دراسات لماذا؟
إن ثمة أشياء مشتركة بيننا فهو من الهامش العراقي – الجنوب وأنا من الهامش المصري من الدلتا بعيدا عن القاهرة، وهو من خارج السلطة وأنا كذلك خارج السلطة وهو خارج الوظيفة الثقافية الرسمية وأنا كذلك، هو متعدد في جنبات الإبداع كما رأيت وأنا متعدد الهوايات فكتبت في علم نفس الأدب والإكلينيكي والقياس النفسي والإسلام والتيارات الوافدة وعلم النفس السياسي. هو ينفق على مشروعه الإبداعي وأنا أنفق على مشروعي العلمي، هو يضحي بالكثير من الفرص المادية من أجل أن يصل صوته للآخرين ولقد حورب كثيرا من بني جلدته، وأنا كذلك. إنه مبدع يستحق كل الاهتمام والمتابعة حتى وجدته يرثى لحاله فهو يحارب كما حوربت أنا بالتجاهل من الوسط الأكاديمي في بلادي فيقول: “هناك من يشكل على الأديب تعدد مواهبه وأنه يكتب في أكثر من مجال أدبي ويعدها سبة أو منقصة أو إنها تأكل من جرف الإبداع أو أنه الشعور بالنقص من عدم امتلاك الموهبة والكثير من التهم أو التوصيفات وحتى المصطلحات التي ترمى هنا وهنا في هذا المجال وكأن الكاتب عامل ميكانيكي أو مهندس كهرباء أو اختصاص طبي معين لا أدري من أين جاء هذا الرأي ولماذا يتعب الذي يتهم نفسه ليكتب هذا الأمر وينتظر آراء المتشابهين معه في تزكية قوله أعتقد أن التعددية ليست سبة أو منقصة بل هي مخيلة قادرة على الإنتاج ومعرفة طرق التدوين وإن الذي يتهم غيره فأنه يشعر بكل تأكيد بنقص المخيلة لديه وأنها لا تتمكن من صناعة أو إنتاج أي شيء آخر سوى ما هو فيه من اتجاه واحد والأغرب من ذلك أن الكثير من الذين اتهموا وانتقصوا اتجهوا إلى كتابة الرواية بعد أن كان شاعرا أو اتجه إلى النقد بعد أن كان شاعرا فاشلا وإلا ما معنى أن يكتب أحدهم أنه لا يكون غير ما هو عليه لأنه يحترم نفسه؟ فهل التنوع الكتابي هو عدم احترام النفس؟ إن الأمر لا يعدو عن كونه نضوب المخيلة والموهبة أو أنه مخلوق لإنتاج جنس أدبي معين وفيه غيره قد أعلن فشله أو أنه وجد نفسه مبدعا في هذا الاتجاه ولا يمكن للمخيلة أن تنتج له غير ما هو فيه وعليه وإليه…
وسأتركك عزيزي القارئ مع متعة قراءة المقاطع التي تحدث فيها “الدكتور خالد عبدالغني” داخل الرواية لتستنتج منها بعض خصائص التكوين المعرفي والنفسي الخاص بالدكتور خالد عبدالغني الناقد والباحث في علم النفس والصديق أيضا .
وبلا إرادة تحرّك محسن ليرفع جسده قليلًا ويكون بمستوى قامة علاء الذي يصغره بأربع سنوات لكنه أطول منه قليلًا وهو بذات طول حليم الذي دخل لتوّه أيضا لكنه يزيد على عمر محسن بخمس سنوات.. تذكّر محسن تلك الأيام الثمانية التي قضاها في القاهرة، وعدّها من الأعمال الكبيرة في مسيرته وهي كانت سببًا في إنهاء عمله في المقبرة رغم أن هذه السفرة لم تكن الأولى له إذ سافر قبلها بعام وقبل الحصول على عمل المقبرة بصحبة صديقه جمعة حيث أقاما أيضا هناك ندوةً ثقافية في الاتحاد وندوة أخرى وسط البلد مقابل الجامعة الأمريكية، من جهة شارع محمد محمود، لمناقشة الرواية التي صدرت هناك وأسماها (الصورة الثالثة) حتى إن يوسف قال له، كل كتاباتك صارت عن سلوى، إما أن ينتهي هذا الصراع بانتهاء صراعك معها، أو هذا يعني عدم نضوج مخيلتك.. لم يجبه في حينها مكتفيًا بردّ علاء الذي قال إن النقاد في مصر ومنهم الدكتور يسري والدكتور خالد، قالا إن الروائي محسن يمتلك موهبة التدوين ويصنع من خلال سرده طاقة المتابعة لما يمر به العراق من خلال سلوى التي تبدو أنها بطلة الروايتين لكنها الخيط الذي يمكن من خلالها رؤية كلّ الواقع العراقي.
فيما قال الدكتور خالد جملةً، محسن مسكونٌ بالرمزي والأسطوري لكنه يغمى على المتلقّي فيتصوّره وكأنه كاتبٌ واقعيٌّ وما هو إلّا من مخزونٍ حضاريٍّ جمعيٍّ لحضارة العراق وتاريخه، ومخزون تراثي شفاهي لابد وأنه استمع لبعض منه في طفولته.
.. أراقب أفكارك فأجدك تتنقل بين حكايةٍ وأخرى.. أضحك لأني لا أفهم ما تقوله في الأماسي الثقافية أو اللقاءات الجانبية عن الثيمة والسرد والزمكان واللازمان.. كل ما أفهمه هو وجود حكاية في رأسك تريد إخراجها.. وهو ما تؤكّده كثيرًا. قلت في ندوة القاهرة، ليس المهم لديك كتابة رواية فيها حكاية، بل المهم كيف تكتب رواية فيها فنّ وتلاعب بالزمن.. خفت عليك من هذه الجملة وأنت تجلس بين ناقدين مهمين الدكتور يسري والدكتور خالد.. لكنهما أثنيا على ما قلته وشعرت بالفرح لك.. حقيقة شعرت بالفرح حين وجدت حليمًا وعلاء فرحين أيضا وقد أجادا بالحديث عنك.
كان عليك وأنت تجلس خلف منضدتك، التوقّع لما هو سلبي لكي تخفّف من المفاجأة وألّا تكون أكبر من حجمك.. اجلس بهدوءٍ وفكّر كما أخبرك الناقد المصري خالد وهو يتحدّث عن روايتك.. يقول كموجّه نفسي باختصاصه علم النفس، الهدوء بالكتابة تعطي مفعول الاحتراق والتدوين، لا تترك شيئًا دون تدوين، ولكن لا تتأثّر به، ما ورد في الرواية آراء شخصية وليس آراء الشخصية.. كان الناقد خالد وهو يعبر عن إبداعية الرواية يريد القول إن فيها الكثير من المحنة التي تنطلق فيها الأبعاد النفسية، لذا فالغوص في هذه الأبعاد يحتاج إلى صدق الاقتراب من الواقع.. هذا الكلام لم يقبل عليه حليم الذي اعتقد فضّل عدم الاقتراب بشكلٍ مفرطٍ كونه يعني الولوج إلى المناطق المخيفة والمحرمة.. لذا قال لك، عليك الشعور بما حولك دون الاقتراب من التوتّر النفسي بل التحليق بالمنطقة الفلسفية.. لكن علاء قال، لا عليك بهذا الكلام النفسي والفلسفي والاثنان أبعد ما يكون عن الرواية، أكتب كما تكتب أنت لأنك تؤمن بما تكتب وهو هنا الصدق.. تضحك الآن وأنت تتذكّر الآراء التي لم تقترب من حقيقة الشعور بلذّة الكتابة نفسها كمعالجٍ لما هو ضار في الحياة.. لذا قلت لك، المهم هو التأمّل ممّا حولنا وليس فقط التأثّر به.. تطوف بما يحصل وعليك مساعدتي في تشذيب اللغة وتعديلها و نترك طريقة الانفعال غير المجدية في ردّة الفعل.
وصلت كازينو جلجامش مشيًا.. احتجت إلى نصف ساعةٍ تقطعها على قدميك، لا قبل لك بتأجير سيارة أجرة.. عليك الخروج من القطوعات المحيطة بوسط المدينة، ثم تأخذ الطريق الذي يمرّ بمكان لقائك بمجتبى تحت مجسّر الضريبة، ثم تتوجّه إلى الأمام باتجاه حي الحسين ومن هناك إلى الكازينو.. وقت طويل لا يمكن البقاء بلا حوار أو حتى هذيان.. هناك وجدتهم جالسين كأنهم يتحرّكون وسط النسائم العليلة، وقد تعوّد الجميع على المعايشة اليومية مع أي تغيّرٍ يطرأ على درجات الحرارة.. وهو ما يقوله علاء، الجلوس والمناقشة والحوار الجميل هو البديل عن حرارة الصيف اللاهبة. تشعر أنك في مكانٍ فيه ألفة معتّقة.. هدوء ونقاش.. تذكّرت الجلوس في شارع محمد علي مع الدكتور يسري وخالد وعلاء وحليم.. الجلوس في المكان الصاخب.. يوحي لك كما قال الدكتور يسري إنه المكان الذي يعطي دلالة القاهرة التي لا تنام.. كانت الأضواء تختلف في هذا الشارع الذي تقع على جانبيه مقاهٍ كراسيها من الخيزران وتنفصل عن الشارع بسياج موزّع عليه أصص الزهور، فيما يأتيك الباعة المتجوّلين بكلّ ما يحتاجه السائح.. والأجمل البنات الجميلات المرتديات لبنطلون الجينز وهن يبعن العطور أو التمثايل الصغيرة لآثار مصر الفرعونية.. الشارع مزدحم بشكلٍ كبير رغم منع مرور السيارات في وسطه وقد تم تصميمه لكي يكون أشبه برصيفٍ طويل رصفّت المحال على جانبيه وفروعه العديدة، تقدّم فيه مختلف المشروبات مثلما فيه مطاعم ومحال لبيع الأجهزة الألكترونية والموبايلات ومقاهٍ تعرض صورًا لمختلف الفنانين من أجيالٍ مختلفة.
قال علاء:
– إنه شارع الثقافة والفن الأكثر شهرة في مصر.
كان حليم صامتًا.. همس علاء، المكان لا يعجبه ربما.. لكن الحقيقة إنه كان يتأمّل، يعلم ما للشعوب من عادات وتقاليد وبيئات مختلفة، و تأمله كان واضحًا وهو يسحب دخان الأركيلة وينصت إلى الحوار الذي دار بينك وبين الدكتورين حول تراجع دور الرواية العربية مثلما تراجع كل شيء..
وقال الدكتور يسري، الرواية الآن عبارة عن تهويمات استغلت الواقع الذي مرّ بالبلدان العربية مما يسمى بالربيع العربي، فضاعت تلك الألفة بين اللغة والحكاية وأصبحت مجرّد انغماس في الممنوع واللّذة والجنس بحجّة التطوّر الاجتماعي والثقافي، والحقيقة تراجع في الإبداع.. فيرد عليه الدكتور خالد، العامل النفسي مؤثّر في هذه الناحية، فالواقع الجديد واقعٌ مرتبكٌ، واقعٌ مسمومٌ بالهزيمة أكثر منه بالانتصار وهي فترة تشبه إلى حدٍّ كبير ما مرّ على الوطن العربي من تأثيرات هزيمة حزيران.
حينها تحرّك حليم من كرسيه ورفع كرشه إلى الأعلى، ونفث آخر دخان سحبه من أنبوب الأركيلة.. ليردّ عليهما، الفلسفة غابت عن الواقع العربي، الفلسفة التي تعطي هدوء التفكير وصرنا مجرّد انفعاليين حتى في الكتابات.. الفلسفة بوصفها مهاد تفكيري لاطلاق السؤال.. وإلّا ما معنى الكتابة بلا سؤالٍ أو إجابةٍ تبحث عن سؤال.
هل تذكر يا محسن ماذا قلت لهما وهما يثنيان معا على روايتك؟ قلت شكرًا، ونظرت إلى علاء وقلت له، انظر كيف ينظرون إلى كتاباتنا في حين نحن في العراق نحاول جعل أيّ إبداعٍ صيدًا للأخطاء سواء كانت الطباعية أو النحوية ونجعل الكلام مجرّد مجالٍ للنقد والانتقاص. وتذكر ما قاله الناقد خالد حين عدّ الأمر طبيعيًا وقال، التقليل من إبداع الآخرين في كلّ البلدان العربية حالة نفسية.. ثم قال لك، نحن مثلا لا نرى الشارع على أنه جميل لأننا خبرناه في عيوننا أما أنتم فتنظرون له على أنه علامةٌ من علامات الجمال.. أيّده الدكتور يسري بقوله/ النظرة الجديدة تكون أجمل مثل النظر إلى صورةٍ محصورةٍ في مرآة، فهي أجمل من النظر إلى الطبيعة بطريقةٍ مطلقة.
كنت منطلقًا بما جاد به النقاد في مصر عن رواياتك وطريقة كتابتك.. مثلما كنت منبهرًا مما حولك من صور. ولم تسمع علاء وهو يطلب منك شرب عصير ( المانجا) فقد ذهب نصف صوته في الضجيج، وكان في داخلك كلمات مثل سحقًا وتبًّا وتعسًا.. لا شيء غير الشعور بطعم الحياة هنا حيث الأجواء التي تمنح الحرية رغم الجوع والأجواء التي تخنق الكلام والتراجع إلى الوراء رغم الغنى الذي في البلاد.. الناس هنا تصنع الابتسامات وهناك نلوك الصمت والرضا بالخوف.. فيتابعك حليم وأنت ساهمٌ في فراغك ويراك الدكتور خالد وقد انغمست في تفكيرٍ يؤثّر على نفسيتك، فيما كان الدكتور يسري يراك وقد غرقت في فكرةٍ ومقارنة. ولا أحد يدري أنك كنت تبحث عن عدالتك الموهومة والضاجّة بالخداع.
هو يعلم معاناته من هكذا حالات.. المخيّلة والكتابة والوحدة التي يعاني منها تجعله يتنقّل من أمرٍ إلى آخر.. ومن قولٍ إلى مقابله.. لا يدري كيف سيجيب على الأسئلة التي تركها في روايته عن سلوى وما ستضيئ به الليلة التي حضرت فيها حمدية عنده لتخبره ويساعدها. معاناة لا يجد لها، حتى أن الناقد المصري الدكتور خالد قال له وكانا يقفان أمام تمثال نجيب محفوظ حين أوصل ضيوفه إلى شقتهم بعد انتهاء ندوة الاتحاد، كتابته عن سلوى يجب أن تتحوّل من كونها مرحلة مراهقةٍ أو عملية لتدوين لما هو قابع في الذاكرة إلى عملية تدوينٍ للوضع العراقي.. أخبره بكتابته عن المراحل والمتغيّرات العراقية منذ الحرب العراقية الإيرانية، إلى دخول الكويت عام 1990 وما نتج عنه حرب 1991 وما سميّت بعاصفة الصحراء، ليكملها الحصار الذي امتدّ إلى الاحتلال الأمريكي، وما حصل بعده من متغيّراتٍ سياسيةٍ تطوّرت إلى حربٍ أهليةٍ ومذهبيةٍ وتنظيم القاعدة ومن بعده تنظيم داعش.. قال له:
– إنك تكتب تاريخ العراق الحديث وستمضي بهذا الاتجاه لا شعوريا.
كان محسن ينظر إلى شموخ تمثال نجيب محفوظ الذي تمّ وضعه على قاعدةٍ مرتفعةٍ.. واضعًا النيل على يمينه وقد أعجبه تحليل صديقه الناقد، لم يقل له أنه يعلم هذا وقد حوّل موضوعة سلوى من كونها قصّةً حقيقيةً إلى مناقشةٍ لهذا الواقع، وأنه يفكّر بكتابة جزءٍ ثالثٍ عن التحوّلات في البنية الفكرية العراقية والتناقضات التي يعيشها الإنسان العراقي سواء بالتناقضات السياسية أو الدينية لكنه فضّل الإصغاء، تاركًا الدكتور يقلّب أوراق روايته بغلافها الأصفر فيسمعه يقول له:
– حسنًا فعلت في توثيق الواقع. المستقبل سيكشف إن الرواية هي الأصدق من التوثيق والتاريخ ذاته.. الرواية يكتبها المبدعون والتاريخ يكتبه المنتصرون والسياسيون والطغاة وكلّ ما له قرب من السلطة.
شعر محسن في تلك اللحظات بالفرح وهو يرى نجاح أسلوبه في الكتابة، وندوة اتحاد الكتاب في حي الزمالك كانت شاهدًا على عدّ روايته من الروايات الجيدة على المستوى العربي.. وقد شعر بالفرح حين جلس على المنصّة وخلفه تمثال طه حسين عميد الأدبي العربي النصفي في تلك الندوة.. مثلما شعر بالفرح وحتى الغرور قليلًا حين أجري معه لقاء لإذاعة صوت القاهرة الكبرى من القاهرة، وقد تحدّث الناقد الدكتور يسري قبله في اللقاء معلنًا، إن الرواية العربية تعيش حالة انحدارٍ كبير، ويأتي روائيٌّ عراقيٌّ ليعيد بريق الرواية، وإنه يفجّر قنبلةً أدبيةً وسيفجّر أخرى بروايةٍ ثالثة قرأنا مخطوطتها قبل طباعتها. وحين انتقل اللقاء إلى الدكتور خالد قال، الروائي يدرك ما يكتبه ويجيد لعبة الرواية وصناعتها وهو يعطي للمتلقّي العربي الكثير من الوقائع التي تلخّص ما وصل إليه المجتمع العربي من خلال العراق الكبير والعظيم.
لم يكن أمام محسن وهو يمسك جهازه النقال ليصوّر الناقدين وهما يتحدّثان عنه بتمجيدٍ جيدٍ لم يحصل عليه في بلاده.. فكان مثل طفلٍ لا يهدأ وبالكاد سيطر على ارتعاشة يده ليظهر الفيديو بشكل جيد.
ربما يدرك محسن صعوبة تغيير الرأي من أن سلوى ليس مجرّد امرأةٍ في خيال، أو جزء مدنّس في الواقع وليس فقط كونها معادلًا موضوعيًا لضحايا الحرب كما قال أحد النقاد.. على أساس أن لا كتابة بدون واقعٍ.. ولكن لا واقع بدون جزء من حكاية المؤلف.. وهو ما أكد عليه الناقد الدكتور خالد باعتباره يحلّل الشخصية من منظورها النفسي وليس الإبداعي فحسب، لكنه يسأل عن المدى المجروح في خاصرة الواقع.. لذا فهو لا يمكن له البوح كليًا بما تشكّله سلوى له.. والشعور الذي يعيشه أنه لا يتحدّث عن الرواية ولا يتحدّث عن بطلة الرواية.. هناك الشعور بالإثم .. حتى إن الناقد الدكتور يسري رأى تقاربًا جميلًا بين اسم البطلة ومعناها.. سلوى الحياة بالنسبة للقاص وسلوتها في البحث عن اللّذة لتكون مهادًا لما سيحصل وتلك ضربة جميلة من الروائي.. وقال، سلوى ليست ضحية حربٍ بل هي ملهمة الكاتب لإنتاج واقع الحرب وتأثيراتها.. ظلّت هذه الجملة ترّن في أذنه.. لذا فإنه حين وقف مع الدكتور خالد أمام تمثال نجيب محفوظ.. قال له إن سلوى ليست فكرةً، بل واقعًا أثّر كثيرًا على الحالة النفسية.. لذا ترك الأمر لاكتشاف المتلقّي لما هو مضمر منه.. فردّ عليه:
– أعلم هذا فالكلمات تفضح المرام.
لم تسألها عن سلوى بعد.. تحاول اصطياد أيّ وقت لتنفذ منه إلى سؤالك.. وعلى الرغم من صعوبة الموقف خاصة بعد جلسة الاعتراف المضنية التي لم تنته كما يبدو، لم يكن بالإمكان مقاطعتها، فهذا يعني انتهاء الجلسة وربما تكون ردّة الفعل هي الخروج من البيت.. وأيضا فقصّتها جعلتك مصغيًا ومتلهّفًا لما سيأتي من حكايةٍ غلّفها الحزن وضاعت منها العدالة.. أحاول إبقاءك قويًا أو ليس ضعيفًا على الأقل.. فأنا أعرف ارتباكك من كلّ الذين تصوّرتهم يعلنون الحسد أو يضمرونه. كلّ له علبته المملوءة، ولكن كما قال لك حليم، الأهم هو المضي وألّا تلتفت إليهم، هؤلاء في كلّ عصر.. قلت له أنهم سبب خروج الفلسفة فهم يشككّون بكلّ شيء، فيكون بحثهم عن المضاد.. ضحك وقال إنها مرحلة التعرية. ثم وهو يرتشف دخان أركيلته في القاهرة ذكّرك بما كتبه على صفحته في الفيسبوك، الأفكار لها مواقف وإن اﻻنكسار الذهني والروحي الذي يصيب المثقّف والفنان والأديب وحتى الإنسان البسيط هو انكسارٌ للوجود وشهادةٌ بالهزيمة واعترافٌ بانهزامية الأنا سواء كانت حاضرة أو تاريخية.. قلت له، مثل هؤلاء لا يرمّمون ما انكسر بل يجرحون بشظايا خساراتهم الآخرين.. فقال الدكتور خالد، المخيلة تختلط مع الواقع فينبري العامل النفسي ليكون في حالة ارتباك.. لذا لابدّ من استثمار الأسباب للنجاح وليس النظر الى المهزومين والمنكسرين.
لا ينشطر الحوار في تلك الليلة وأنتم الخمسة تتحاورون في أغلب المواضيع.. كنت أنصت لك كي أعينك.. فكلّهم يحملون شهادات عليا إلّا أنت.. وأنت تحاول مسك العصا من المنتصف لتكون داخل معلوماتك.. لم يكن أمامك غير الإنصات، فلدكتور خالد قال ما يشير إلى ذلك بحدسه المعروف ورؤيته التحليلية النفسية، لديك مخزونا تراثيا شافهيا.. وتستمع الى قول الدكتور يسري، الحياة ليس فقط رؤية المستقبل بل الاستفادة من التاريخ لأنه قيم وأخلاق، وعلينا ألّا نكون في مواجهة التطرّف الذي يأتي به الغرب. لم يستطع علاء من الصمت رغم إنه كان يراقب حركة الناس وحواراتهم وتوجّهاتهم فهو مسكونٌ بالكتابة عن الأمكنة، وكلما زار دولة كتب عنها كتاب رحلات.. لكنه هنا اعتدل في جلسته وتحدّث بلغةٍ بدت وكأنها دفاعٌ عن أفكاره التي تدركها أنت وحليم،الأمر ليس كذلك. قال ووضعت يدك على قلبك وتبادلت النظر مع حليم.. فحين يتحدّث علاء فإنه لا يقول إلّا بما يؤمن به تماما حتى لو كان مخالفًا للآخرين.. لذا أكمل قبل أن يحصل على إشارةٍ من حليم بالهدوء وقال، النظر الى المستقبل هو الذي يمنح رؤيةّ أفضل للحياة، فالماضي سليبٌ وأكذوبةٌ صنعها الطغاة والأديان وصار الجميع أسرى لكلّ هذه القناعات الزائفة، المهم هو الإيمان بالإنسان كونه الحقيقة الوحيدة وعلى الجميع ممارسة دوره في استنطاق العقل لا استنطاق الغيبيات.. لم ترد أو تعلّق، أخرجت علبة سكائرك وقلت لعلاء أن ينظر الى المرأة التي تعبر الشارع وهي تبيع أشياءها المصنوعة من الخرز والمنمنمات.