بقلم/حاتم سلامة
مما يحزن ذوي الألباب، ويرمي النفوس بالحسرة والكمد، أن تكون أمة كمصر، قدر لها أن تنجب نابغة كمحمد الغزالي، ثم هي لا تحتفي به، ولا تقيمه في المقام اللائق به.
ولو أنها أمة تقدر الرجال، لجعلته معلما من معالمها، كأبي الهول والأهرامات، وتسمي باسمه الشوارع والميادين، وتضع صورته على طوابع البريد، وتعلم سيرته لطلاب المدارس، فالرجل لم يكن داعية أو عالم دين تقليدي، ممن نألفهم ونراهم، بل كان من هؤلاء الذين نطلق على أحدهم: أنه كان أمة وحده.
من يصدق أن يمضي هذا العمر الكبير، وتمر هذه السنوات الطويلة، على رحيل ذلك الرجل الذي كان يعني لي الكثير والكثير، فإن تأثري به كان بعيد الغور عميق التكوين.
لم يكن في حياته مجرد شيخ أزهري معمم، يتحدث كغيره في شؤون الدين، ولكنه كان في مخيلتي يشبه نبيا يحمل هم رسالته، وزعيما يجاهد من أجل أمته، ومصلحا عظيما يستصرخ الناس لسبل نجاتهم، وداعية يريد إحياء مجد المسلمين الذي تبدد وانزوى، وتاه في دروب الدنيا وتقلبات الحياة.
بل كان ذلك الأديب الذي لا نظير له في دنيا الكتابة، حينما كان قلمه ينبض بالحياة، فتستأثرك عبارته، ويستهويك نظمه، وينفطر قلبك لما يحمله من معان وآلام وأشجان وطموحات.
كان نموذجا فريدا للعالم الأزهري الحر، الذي يعيد لك صورة الأزهريين الأحرار القدامى، الذين كانوا يقودون الجماهير، ويبعثون الهمم في نفوس الناس، كان صورة للعالم الأزهري الواعي الفطن الذي يرتكن إلى التاريخ والحاضر والعلم والفلسفة في تشخيص الأدواء وإظهار العلل.
ما كنا نشعر أبدا بنوع من القلق على الإسلام من علماني أو يساري، مع وجود الغزالي، الذي كان يجسد في حقيقته حصنا منيعا من حصون الإسلام، و جيشا عرمرما يذود عن حياضه، وكتيبة الدفاع الأولى ضد مناهضيه، والمدفعية الثقيلة الشرسة التي تصب لهبها العاصف على كل حقود غشوم، فما أن يجهز على عدو للإسلام حتى يقضي عليه، وما أن يصوب قلمه لعابث بالشريعة حتى يبدد منطقه ودعواه.
لقد كان يوم 9 مارس يوم خطب جلل ومصاب عظيم في حياة الأمة، إنه يوم رحيل الشيخ محمد الغزالي، وهو يوم قضته الأقدار الإلهية، ولكنه في حساباتي تجسيدا لخسارة كبيرة منيت بها أمتنا، يماثل دون مبالغة إن قلت ووصفت: إنه يشبه في نفس الغيورين على الدين، بيوم سقوط الخلافة، أو هزيمة المسلمين في أحد.
وعلى قدر حزننا لرحيله، على قدر ما فرح بموته خصوم الإسلام، لأنهم يعرفون معنى محمد الغزالي.. وكان كل منهم يخشى بوجل صاحب هذا الاسم، ويرتعد من هذا العلم، الذي ما كان يملك الحجة الدامغة، والبراهين الساطعة فقط، بقدر ما كان يملك قلما قاهرا ملهبا، لم يعرف تاريخ الإسلام مثله، حينما مزج بين القوة واللين، والعنف بالعاطفة، والقسوة بالرقة، والدمعة بالشررالحارق.
لم يكن الغزالي عاطفة تبكي حال الإسلام وترثي بوجد أمجاد المسلمين، وتنعي ببيانها عزا تولى ودهرا أفل، وإنما كان رحمه الله قوة دافعة تحمي الإسلام، وتضرب بعنف إذا ما فرضت على الإسلام معركة.
لم أعلم في حياتي أن القلم يمكن له أن يربي ويهذب ويعلم ويحمس ويدفع للمعالي، إلا حينما قرأت لمحمد الغزالي.. قدر لي وأنا صغير أن أقرأ له يوم وقع في يدي أو في طريقي كتاب من كتبه، وعلى قدر سني الصغير ووعيي الضعيف إلا أن الرجل اخترق مشاعري، وتمكن أسلوبه من قلبي، وشعرت فيه بالصدق العظيم والإخلاص المشع.
هذا القلم الذي استطاع صاحبه بمهارة وجدارة أن يربطني به، ويأسرني في روحه، ويسيطر على وجداني ويملك علي عاطفني وجناني.
أحببت هذا الرجل حبا جارفا لم يحظ به في قلبي عالم من العلماء، أو فقيه من الفقهاء، أو داعية من الدعاة.
كان أملي الكبير أن ألتقي به يوما، وتكتحل عيني بمحياه، وأنحني عاشقا لأقبل يده.
ولكن القدر كان أسبق به إلى لقاء ربه، حتى كان نبأ موته صاعقة زلزلت القلوب، وهزت النفوس والأركان والوجدان.. ومما أمتن له، ويسلي روحي، أنني زرت قبره في البقيع ووقفت على رفات جسده المبارك، دلني عليه أخ ممن حضروا مشهده، ثم ترحمت عليه كثيرا، وكدت أقبل التراب الذي يضمه.
يتسابق الشيوخ حال تخرجهم من الكليات الأزهرية، لإثبات وجودهم في ميدان الدين واللغة، فمن كان منهم متفوقا ضالعا يسارع إلى تأليف كتاب في الفقه أو الوعظ، أو كتاب في الأدب واللغة وإشكالاتها، أما محمد الغزالي ولأنه مختلف، ولأن رسالته متميزة، وأهدافه مغايرة، وتكوينه متباينا، فقد كان أول كتاب ألفه في حياته هو (الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية) ولعله كان فلتة أو نزوة لم يتبعها بمثلها،، فإذا به يلحقه بكتاب آخر هو (الإسلام والاستبداد السياسي) لتراه من أول يوم قد امتشق فيه القلم، وهو يصوبه نحو قضايا أمته، ويعالج فيه أمراضًا أصابت المتدينين قبل غيرهم، وأعطى التصور الحقيقي للناس حين غفلوا عنه، وجعلوا معاني الدين في محاريب المساجد.
من من الأزهريين يتكلم في مثل هذه الأمور؟! من من الأزهريين اليوم يصدح بالحديث في هذه الهموم؟! وهم الذين تعرضت مناهجهم للمسخ، وأوعيتهم للتضليل، فصار الواحد منهم أو الكثيرين فيهم يرون أن الدين يعني أحكام الغسل والطهارة، أما أن تصول وتجول في مصالح الأمة ومصائر الناس، فهذا لا شأن لك به، وخيانة لأمانة الدين، وما الخيانة الحقيقية إلا في هذا الاعراض المبتور، الذي لا يعبر عن صورة العالم الرباني الحقيقي الذي نطقت به صورة محمد الغزالي.
يحاولون اليوم جاهدين في إسدال وسائل التعمية على الشيخ ظانين أنهم سيرمون به في سلة النسيان والاهمال والاغفال.. شأنه في هذا شأن كثير من الرموز والقامات التي اعتزت بانتمائها الديني، ولكن أنى لهم هذا الأمل، وقد استطاع الرجل بأثره، أن يتخطى حدود كيدهم، ويفرض وجوده بقوة، وينتزع منهم عناصر الوجود والحضور والبقاء، بما خلف من تراث وبيان، وعاطفة حرة تنطق بها السطور.
مما يشرف به كل مجاهد صادق ويأمله، أن يموت في ساحة الوغى، وتزهق روحه وهو يصارع الأعداء، ويرى ذلك تتويجًا لبلائه وحسن جهاده.
بل يراه القدح المعلى في درجات المرابطين.
ولأنه ذلك الداعية الذي تحيا هموم أمته ودينه في صدره، فقد شاء الله أن ينال هذا الشرف الذي يناله المجاهدون في ساحات القتال، ليرحل وتكون آخر أنفاسه في الحياة وهو ينافح عن الإسلام، و يالها من خاتمة.
عاش داعية، ومات داعية.
هناك من يرى حسن الختام لو مات المسلم في صلاته، أو مات على وضوء، أو مات وهو ذاهب إلى المسجد، لكن ما أروع أن تكون خاتمتك، وأنت تنافح عن دينك، ويعلو نداؤك به، ويشتد نكيرك على خصومه.
إنه التكريم الإلهي لمحمد الغزالي.