أتذكَّر أنَّني لم أَقُلْ يومًا لنفسي “نويتُ أَنْ أكتُبَ قصيدةً هذا المساء” – على اعتبار أنَّ أَكْثَرَ ما كَتَبْتُ كَانَ ليلاً –
وأعرفُ شعراءً منذ عشرينَ عامًا، وهم يكتبونَ شِعْرًا كُلَّ يومٍ، بل إنَّ هناكَ شعراءَ يكتبونَ أكثرَ من قصيدةٍ في اليومِ الواحدِ.
فإذا كنتُ لا أنوي كتابةَ قصيدةٍ، فَأَنَا – إذنْ – لا يمكنُ أَنْ أفكِّرَ في كيف ستكونُ؟، ما لغتُها، شكلُها، بناؤُها، عالمُهَا وهكذا؟؛ ومن ثمَّ فأنا لا أفكِّرُ في أشياء خارج عالمِ الكتابةِ، لحظة الإبداع، هَمِّي هو كَيْفَ أمسكُ النَّارَ، أو أسرقُ الماءَ من البَحْرِ، أَنْ أُحوِّلَ الترابَ كائنًا حيًّا يمشي ويتنفَّسُ، أَنْ أُجمِّعَ شَتَاتي، وأدخلَ عميقًا إلى بئري، وأكشفَ مجاهيلَ ذاتي، وأستولدَ النُّورَ من عَتَمَةِ الداخلِ.
لا وقتَ أمامي كَيْ أُفكِّرَ في الجمهورِ الذي سيتلقَّى ما أكتبُ عندما أقرأُ شِعْري في مكانٍ ما (وأنا بالمناسبة أُحبُّ تلاوةَ قصائدي في الأماسي والمنتديات والمهرجاناتِ و…)، أم أُحدِّدَ جمهوري، ولا أعرفُه، ولا أريدُ، فقط أكتبُ ما أرى أنَّهُ صُورةٌ لي، ملمحيِ وسمتي، شكل دمي، وربَّما من الفصيلةِ ذاتها.
فالجمهور الذي استطاع أن يتلقَّى شِعْر عمر بن الفارض في صعيدِ مِصْرَ ويحفظُهُ، وَيَسْكَرُ من خَمْرَةِ وجدِهِ وعِشْقِهِ، من المؤكَّدِ أنه يستطيعُ أن يتلقَّى شِعْري ويتفاعلُ معه بشكلٍ حميمٍ ودافيٍ، وحتَّى لو لم يتواصلْ معه، فهذا لن يزعجَني كثيرًا، لأنِّي لستُ سياسيًّا، ولا خطابيًّا، ولا مروِّجَ شعاراتٍ ، ولا شاعرَ مناسباتٍ، أنا فقط صورةٌ صادقةٌ لذاتٍ عارفةٍ بحالها، ولديَّ ثقةٌ شديدةٌ فيما أُنجِزُ من أعمالٍ.
فلا المنبر يَهُزُّني أو يؤثِّرُ في شكلِ كتابتي، أو يَجْعَلُنِي أغيِّرُ من شكلي حتَّى أُعْجِبَ الجماهيرَ.
فلماذا لا أكونُ أنا؟، ولا أكونُ مثلما يريدُ منِّي الجمهورُ؟، فإذا كان المتلقِّي يريدُ منِّي الكتابةَ السَّهْلَةَ، السَّطْحيَّةَ، المتَاحَةَ، المألوفةَ، المحروثةَ، المنتشرةَ، المكرَّسةَ، فيمكنُ أن يجدَهَا عند آخرين غيري، لأنَّني – فقط – سأكونُ مثلما أريدُ. ولن يجدَ عِنْدي ما يريدُ هو.
لنؤكِّدَ أولاً أنَّه لا يوجدُ جُمهورٌ واحدٌ، ولكنْ توجدُ جماهيرٌ متعددةٌ ذاتَ أوجهٍ شتَّى ، مثلما لا توجدُ حَدَاثةٌ شعريَّةٌ واحدةٌ، إنَّ هناكَ حداثاتٍ شعريةً يمثِّل أصحابُها الفرادةَ والاختلافَ والجِدَّةَ في الشِّعر العربيِّ.
فلأيِّ جُمهورٍ أَنَا أتوجَّهُ.
وأتصوَّرُ أنَّ كلَّ ما يكتبه الشَّاعرُ يُقرأُ وُيتلَى على الجمهور، فالقصيدةُ إذا كانت دالَّةً ومُوحيةً وجديدةً وحارَّةً يجريَ فيها ماؤها حيًّا ستصلُ إلى متلقِّيها، صحيحٌ أَنَّ ثمةَ جمهورًا ما “لن يفهمها” بالمعنى السَّطْحِي للتلقِّي، لكنَّها ستخلُقُ لديه حالةً من الانتشاءِ واللذَّةِ والوَجْدِ والدُّخُولِ إلى نَفْسِهِ ليعرفَ، سَيَخْرُجُ من القاعةِ ليقولَ “إَنَّه استمتَعَ” وإذا سألته فلن يستطيعَ أن يقولَ غير “إنَّ الشَّاعر كَانَ جميلاً أو رائعًا”.
هو لا يعرفُ لماذا؟ لكنَّه – فقط يعرفُ أَنَّ الشَّاعرَ خَلَقَ له “حالةَ” مثل حالاتِ المتصوفةِ. لأنَّه ليس من المطلوبِ من الجمهورِ أن يفهمَ الموسيقى، أو يعرفَ معناها، لكنَّها تدخلُ إليهِ، وتسري فى روحِهِ شفيفةً تعلنُ عن وُجودِهَا.
والمنبرُ ليسَ كلُّهُ خَطَابَةً وَحَماَسَةً وانفعالاً وَتَصْفِيقًا واحتشادًا لمبايعةِ شاعرٍ “أميرًا للكلامِ”.
فلا التصفيقُ علامةٌ صحيَّةٌ على جودةِ الشَّاعِرِ أو رَدَاءَتِهِ، ففيه كثيرٌ من المجاملةِ والتحيُّزِ الإقليميِّ أحيانًا، ولا نستطيعُ أَنْ نقيسَ جَمَاَلَ القصيدةِ بعددِ الدقائقِ التى صفَّقَ لها الجمهورُ.
الصمتُ – صمتُ الجمهورِ – في أحايين كثيرةٍ للتلقِّي، يَخْلُقُ الحَالةَ، يكونُ للاستمتاعِ ومحاولةِ الوصولِ إلى قلبِ الشَّاعِرِ.
أنا مثلاً في كلِّ ما قرأتُ داخل البلدان العربية أو خارجها أعوِّلُ على صمتِ القاعةِ، والصَّمْتُ لديَّ يعني أنَّني (نجحتُ في القصيدةِ) إنَّ الجمهورَ لا يعنيني، وليس هو الذي يُقَوِّمُ قصيدتي ويمنحني الشهادة؛ لأنِّني أعرفُ مُسْبَقًا ما الذي أَنَا فَاعِلٌ.
وليسَ صَحِيحًا أنَّ المنابرَ والمنِصَّاتِ تُسئُ إلى الشِّعْرِ.
فالذي يسئُ، هُو اختلافُ الذَّائقةِ.
ففي كُلَّ مرةٍ أقرأ فيها شِعْري، أَرَى ذَائِقَةً مختلفةً في مكانٍ ما مختلفٍ.
والذائقةُ في سبيلها إِلىَ أَنْ تتغيَّرَ ، ولكنَّها لن تتغيَّرَ إلاَّ إذا تغيَّرتْ نظرةُ المؤسَّسةِ إلى الشِّعْرِ (وزاراتُ التربيةِ والتعليمِ والثقافةِ والشبابِ) ووسائل الإعلام (التليفزيون والإذاعة والصحف).
هذه المؤسَّسةُ تحاولُ طوالَ الوقتِ أنْ تُسَيِّدُ أنموذجًا واحدًا من الشِّعْرِ، وتقولُ للجمهور: هَذَا هُوَ الشِّعْرُ، وما عداه مشكوكٌ فيه، وغيرُ مُعْتَرَفٍ بِهِ. وفي مناهجِ التعليمِ (في أهمِّ المراحلِ السنيَّةِ لتلقِّي الشِّعْرِ) تتخلَّقُّ الذائقةُ، حيثُ يتم فرضُ قصائد منظومةٍ لوكلاءِ الوزارةِ، الذين “يقترفون الشِّعْرَ” أحيانًا.
إذن، كيف نَخْلُقُ ذائقةً جَديدةً تتلقَّى الشِّعْرَ الذي هُو جَديدٌ وحداثيٌّ وكبيرٌ وصادقٌ يحملُ دَمَ كَاتِبِهِ هذه هي الإشكاليةُ الحَقِيقِيَّةُ التي تواجهُ الشِّعرَ والمنبرَ في كلِّ مكانٍ من العالمِ، وليس الشِّعْرَ العربيَّ فقط.
فالمنبرُ جُزْءٌ من الحركةِ الشعريةِ في العالمِ، والكبار والمجدِّدون الذين نعرفُهم ونقرأُ لهم، يقرأون شِعْرَهُم أمام المئاتِ والآلافِ من الجماهيرِ.
النصُّ يصلُ إلى متلقيِّهِ عبر المنبرِ والكِتَابِ، والمنبرُ قد يكونُ الصَّحِيَفةَ أو التليفزيونَ أيضًا أو الكاسيت وربَّما “الفيديو كليب” بعد ذلك.
عليَّ أَنْ أكتبَ قصيدتي فقط، أن أقدَّمَ نَفْسِي بلا رتوشٍ أو مساحيقَ، أَنْ أَكُونَ أنا في كُلِّ حالاتي، “حالي يدلُّ عليَّ” ومن ثَمَّ على شِعْرِي.
أَنْ أَهْتَمَّ بتطويرِ قصيدتي، والاشتغالِ عليها، ومحوِ آثارِ ما يتعلَّقُ بها، بحيثُ تخرجُ مستويةً سَوِيَّةً حاملةً اسمي واسمها.
وما عدا ذلك، يأتي في الأخيرِ.
سنخسرُ إذا كتبنا للجمهورِ، سنخسرُ إذا كتبنا خصيصًا للمنابرِ، سنخسرُ أنفسَنَا إذا كتبنا قصائدَ للمناسباتِ (وللأسف أَنَّ هذا التقليدَ الذي يمارسُهُ الكثيرون من شعراءِ العمودِ ، يمارسه الآَنَ عددٌ (لا بأس به) من شعراءِ الحداثةِ، فقد عادت الأغراضُ الشعريةُ (الرثاء، المديح، الهجاء) والمعارضات إلى الشِّعْر المصريِّ مثلاً على يدِ شُعراء من جيلِ السبعينياتِ والأمثلةُ واضحةٌ وفاضحةٌ وَمُضِرَّةٌ بالشِّعْرِ، بل إنَّها عودةٌ للتقليدِ والمنبرِ.
أَهَذَا هو الشِّعْرُ.
من المؤكَّدِ أَنَّ الشِّعْرَ شَيءٌ آَخَرُ نَعْرِفُهُ عندما نعرفُ ذواتَنَا ، ونصَلُ إلى أَنْفُسِنَا.