كتب/ سامي أبوبدر .. عضو اتحاد كتاب مصر
تَتنافسُ -سنويًّا- الجهاتُ والمؤسساتُ المعنية بلُغةِ (الضَّادِ) في إقامةِ فعالياتِ الاحتفاءِ بيومِها العالميِّ، الذي يوافقُ الثامنَ عشرَ من كانون الأول/ ديسمبر من كلِّ عامٍ، مُجتَهدةً في ترسيخِ حضورِها في العَديدِ من الأنشطةِ، التي تتنوعُ صورُها تعبيرًا عن الاعتزازِ بالعربيةِ والمناسبةِ معًا.
ويعود اختيارُ يومٍ عالميٍّ للُّغة العربيةِ إلى الثامنِ عشرَ من شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 1973م، حين صدر قرارُ الجمعيةِ العامة للأممِ المتحدةِ ذو الرقم (3190)، باعتمادِ اللغةِ العربية ضمن اللغاتِ الرسمية ولغات العملِ المقررة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولجانِها الرئيسةِ، كلُغةٍ سادسةٍ إلى جانب الإنجليزية، والفرنسية، والصينية، والروسية، والإسبانية؛ لما لِلُّغةِ العربيةِ من دورٍ فَعّالٍ في حفظِ ونشر حضارةِ الإنسان وثقافتِه، جاء ذلك بعد اقتراحٍ قدمته المملكةُ العربيةُ السعودية للمجلسِ التنفيذيِّ لمنظمةُ (اليونسكو) خلالَ انعقادِ دورتِه التسعينَ بعد المئةِ.
إنَّ مكانةَ اللغةِ العربيةِ عالميَّا ليست وليدةَ تلك الجهودِ التي بُذِلتْ فقط لاعتمادِها في الأمم المتحدة، فإِنَّ أغلبَ الباحثينَ مُتفقونَ على أنها أقدمُ لُغاتِ العالم، وأصلٌ للعديدِ منها فهي أصلُ كلٍّ من الفينيقيةِ والآراميةِ واللغاتِ الشرقيةِ، ويجدرُ بنا أن نعلمَ أن حوالي (80%) من الأفعالِ في اللغةِ السنسكريتيةِ (الهنديةِ القديمةِ) أَصلُها عربيٌّ، و حوالي (75%) من الأفعالِ اللاتينيةِ ذاتَ أصلٍ عربيٍّ، وأن الإنجليزيةَ وحدَها بها أكثرُ من (500) كلمةٍ من أصلٍ عربي موجودةٍ بالفعل في قاموسِ (المورد) أوردها الباحثُ عبدُالرحمن أحمد البوريني في كتابه (اللغةُ العربية أصلُ اللغاتِ كلِّها)؛ لتُدَلِّلَ بوضوحٍ علَى أن تلكَ اللغاتِ نشأَتْ من أصلٍ واحدٍ هو العربية. ولا غرابةَ إذن في أن نرى احتفاءَ المستشرقين بها والْتِفافَهم حولَها، والغوصَ في أعماقِها؛ ليُقدِّموا فيما بعدُ شهاداتِهم بحقِّها؛ انبهارًا بها وعجزًا أمامِ إِعجازِها؛ لِنجدُ -على سبيل المثال- المستشرقَ الإيطالي (كارلو ألفونسو نلينو 1872-1938) يقول عنها: “اللغةُ العربيةُ تفوق سائرَ اللغاتِ رونقًا وغنىً ويعجزُ اللسانُ عن وصفِ محاسنِها”، ويقول فيها المستشرقُ الأمريكي (كرنيليوس فانديك 1818-1895): “العربيةُ أكثرُ لغاتِ الأرضِ امتيازًا، وهذا الامتيازُ جاء من وجهين: الأول: من حيث ثروةِ معجمِها، والثاني: من حيث استيعابِها آدابَها”، ويقول عالمُ اللغة الفرنسي (أرنست رينان 1823-1892): “معجزةُ اللغةِ العربية من بين لغات العالم أنها ليس لها طفولةٌ وليس لها شيخوخةٌ”، وشهاداتٍ أخرى كثيرةً لِمُهْتَمين بالعربية من غير أبنائها، لا يَتسعُ المقامُ لذكرِها.
ومنذُ ظهورِ الإسلامِ اضطلعتْ اللغةُ العربية بدورٍ عظيم في تطورِ الحضارةِ البشريةِ على مدىَ قرونٍ تجاوزت أربعةَ عشرَ قرنًا من الزمان، ولا تزال تتمددُ وتنتشر يومًا بعد يوم؛ بما تمتلكُ من مقوماتٍ لا تمتلكُها لغةٌ من اللغات الخَمسِ الحيَّةِ الأخرى، تُرشحها تِلك المقوماتُ للبقاءِ والاستمرار والانتشار، وتدعمُها جهودٌ حثيثةٌ من المتحدثينَ بالعربيةِ الغيورين عليها المحبينَ لها؛ تُبرز أهميتَها وتكشفُ أسرارَها، وعن مواطنِ جمالِها؛ لِيُغرِّدوا بها جيلا بعد جيلٍ.
كذلك أثَّرَتْ اللغةُ العربية تَأثيرًا كبيرًا مباشرًا وغيرَ مباشرٍ، في لُغاتِ ولهجاتِ البلادِ الإسلاميةِ كتلك التي تتحدثُ الفارسيةَ أو التركيةَ أو الكردية أو الأوردية أو الألبانية أو الإندونيسية أو الماليزية، وبعضِ اللغاتِ الإفريقية كالسواحيليةِ والهاوسا، وكذلك بعض اللغاتِ الأوربية كالإسبانية أو البرتغالية.
لاشكَّ أن اللغةَ العربيةَ سجَّلتْ حضورًا كبيرًا في رقعةٍ واسعة من العالم، تجاوزت شِبهَ الجزيرةِ العربية، موطنَها الأصليَّ، لتسافرَ عبر المكانِ والزمان مع الفاتحينَ الأوائلِ، فانتشرتْ مع انتشارِ الإسلامِ، وحَلَّتْ مَحلَّ لغات أخرى تَهاوتْ أمامَها لأسبابٍ متعددة، أهمُّها ارتباطُ اللغةِ العربية الوثيقِ بالإسلام وكتابهِ الكريمِ، حين لَجأَ المسلمون من غير العربِ إلى محاولاتِ فَهمِ القرآنِ الكريم، وتعلُّمِ أحكامِ وشرائعِ الدين الجديد، وظلَّ الأمر كذلك حتى يومِنا هذا؛ لتصبحَ أكثرَ اللغاتِ الساميةِ انتشارًا، وارتباطًا بحياةِ خُمسِ سكان العالم، هو مجموعُ المسلمين فيه، يستخدمونها في أحاديثِهم، ومعاملاتهم، وأداءِ شعائِرهم، في حين يتحدثُ بها نصفُ مليارٍ تقريبًا.
ومن مُقوماتِ انتشارها -أيضًا- أنها تؤدي وظائفَ اللغةِ باقتدارٍ من حيثُ كونِها الركنَ الأولَ في عمليةِ التفكير، ووسيلةً للتخاطبِ والتعبير عن المشاعر والأحاسيسِ، ووعاءً للمَعرفة بشِقَّيْها التُّراثي والحَداثي، ذلك لأن اللغةَ العربيةَ تمتلكُ طاقاتٍ هائلةً ومؤهلاتٍ مطلقةً، وخصائصَ صوتيةً بلغت بها حدَّ الكمالِ والإعجاز في صفاتِ حروفِها ومخارجِها، وصرفيةً تدورُ بك في فَلَكِ التغيير الذي طرأَ على بِنيةِ الكلماتِ من زيادةٍ أو نقصانٍ أو إبدالٍ أو إعلالٍ، ومُعجميّةً تبحثُ في جذور الكلماتِ وأصولِها وطرق نطقها، ونحويةً تبينُ مواقعَ الكلماتِ من الإعرابِ أو البناءِ، ودلاليَّةً تفسرُ معانيَها وتُكسبُنا القدرةُ على فهمِها، وبلاغيةً تتناولُ أساليبَها ومدى مطابقتِها لمقتضى الحالِ، تلك مَيْزاتٌ مقصورةٌ في معظم تفاصيلِها على اللغة العربيةِ دونَ سِواها.
كل ذلك يجعلُ من اللغةِ العربيةٍ لغةً عالميةً حيةً، مُتفرِّدةً مُعجِزةً، مُمتدةً عبر التاريخِ، باقيةً ما بقيت الحياةُ.
وإن كانت العربيةُ الفصحَى تعاني الآنَ أزمةً في استخدامِها كلُغةِ تخاطبٍ يوميةٍ بسبب طُغيانِ اللهجاتِ العاميةِ في البلادِ التي تَعتمدُ العربيةَ لغةً رسميةً بها، وهو ما يمكن وصفه بحالة اغترابٍ عن ألسنةِ أبنائِها، شأنُها في ذلك شأنُ معظمِ اللغاتِ؛ إلا أنَّ ذلك لا يبعثُ على القلقِ من أن تتراجعَ أو تَنحسِرَ، لأنها رغمَ ذلك لغةٌ رسميةٌ أولى أو ثانيةٌ في العديدِ من دول العالمِ، كذلك هي لغةُ المراسلاتِ في دواوينِ ومؤسساتِ الدولِ الناطقةِ بها، ولغةُ المناهج الدراسيةِ، والبحوثِ العلمية، والندواتِ والمؤتمراتِ الثقافية والأدبية، وأيضًا هي لغةُ كلِّ فعالياتِ الجالياتِ العربيةِ بالخارجِ الأجنبيِّ، وأَهَمُّ من ذلك كلِّهِ هي لغةُ (القرآنِ الكريمِ) كتابِ المسلمين المقدَّسِ، الذي ضمنَ اللهُ -عز وجل- حفظَهُ وبقاءَهُ في قوله تعالى: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”، وفي ذلكَ تَعهُّدٌ إلهيٌّ ضِمنيٌّ بحفظِها وبقائِها وهو ما لم يتوفر لِلُغةٍ أخرَى.