هذا الشاعر الأريب فتح لنا أبواب الشعر الحر، واعتلى قمته بمهارة وجدارة بقصائد غناء موجزة مسددة، ثرية بلغة سليمة ومفردات بليغة وحروف متأنقة رصينة.
باقته الزهراء
(خربشات) تشمل مناحي عدة، تنطلق من الحب ذلك المخلوق الساحر، ثم تمتد فتغوص في قضايا الانسان وهموم الحياة.. موهبته الغراء تحملك لتدخل عالمه المسحور بحروفه الحسناء، يدور معك فتلقى نفسك في جزيرة الأبجدية الموشاة بالبلاغة والحسن أسيرًا، ولا يتركك تنعم بالمشهد بل يُناوشك ويُشاغبك لتطرح عنك دفء المكان وعظمته، لتجري خلفه في إحدى درره، وتغوص معه وهو يقدمها لك، فهنا عتاب للحبيبة، وذاك وجع إنساني من نيران الغربة ونسيجها الدامي.تتقافز الكلمات الغضبى من فوهة بركان الغربة كالسيل، الكآبة تطرح وجعها على الحياة فتنجب المستحيل، يجتمع داخله اليأس والمرارة:(تخبو أغنيات الصباح في أوشجة الظلمة والجمرات /أدرك بعد فوات/ أن/الزهر النابت في أعماقه مات)
قمة اليأس صدرتها حروف غاية في المرار تتسلل إلى روح المكان والمتلقي، غير الأمل الذي يُعربد في دم الشاعر، فهو ممهور بالانتماء للربيع الذي يأتي متألقًا في ليل / بلا نجوم ولا قمر.
ورغم عودته بدون الحبيب المغادر وكأن ذاك الراحل جزءًا من وجدان وكيان الشاعر الذي بات حتى الربيع لا يُبهجه!
انكسر القلب شظايا وهو: مشهد عبقري الحسن وثاب..وللشعر في لغة الشاعر مفاتيح وحكايات تُعطيك تجربة تُثري عقلك بمكنون قلبه وتجربته التي كان نتاجها هذه الأبيات التي تسللت إلينا بنبضها فأحكمت قبضتها على أوضاعنا.: (الخوف مازال/ يسكن البيوت) (حاذر أن/ تصرعك الدهشة /أو ذنب يتجلى /أو ذئب يتخفى في ثياب بشرية) وهي نهاية تحذيرية لنفسه، ألا يقع في تجربة تزيد أوار وجعه وتُذكي نيران ندمه، حتى الأحلام تُصدر أنينًا خافتًا يسمح لها بالمرور الى عقله الباطن: (أن تخلع عنك الأحلام)
فما أبهى هذا الوجع حين يُرسل إلينا رسالةمفادها:««أنه ليس بالأحلام؛ ولا بالخيال نحيا.»» إضاءة إنسانية بديعة الحنان والوجع يُصدرها الشاعر الأريب “غُدية”، فهو كشاعر ليس مغلقًا على تجارب الحب وتباريحه، بل ينتقل بنا إلى وجع الإنسانية التي ألقت بنفسها من شاهق فتمزقت أوصالها، ولم يُعد لعلوم البشر قدرة على لملمة وجعها وكف الأذى عن قيمها، في رسالة إلى الذين يقتلون مرضى الفقراء ويستخدمونهم كفئران تجارب، فيتحدث كفقير مريض يخشى نزع أعضاؤه ويشتكي هؤلاء “الظلمة” لأهل الرحمة من الأطباء الرحماء بقوله:( الطببة الذين يطيب لأجلكم الحب والانحناء).
و«الشاعر غُدية» فارس القصيدة الحرة بروحه وحروفه وتعبيراته الوثابة بمفردات لغوية _ لا يرقى لها البعض_ خاصة به وحده ، مشاهده الشعرية تفيض بالمفارقات بين الألم والأمل والخيبة ويأس مفتون بأغصان وظنون، ويُلقي إلينا صاحب القصيد مبررات خروج الصدق من الخدمة بخشية فوات القطار، رمزية حالكة الظلمة في وضح الضياء؟!!
««وإن كان الصدق مازال في عرينه باسمًا يترنم بأعذب الالحان»»
في لقاء الشاعر بأصحابه يبرر لهم جفاف مشاعره، واستسلامه لما أصابه من وهن آلام الحياة، ويُودعهم بأمل في لقاء بعد عام..ولم يقل لنا لماذا يغيب عنهم “العام ” أو يزيد، وكيف والغياب الطويل يُحدث التغيير
فيحدثنا عن خوف من تفرق الصحبة وضياع المحبة كما ضاع الصدق، فيعود خاويًا بلا رفاق، وهو من ابتعد بإرادته عنهم ولكنه عاد فشبه الصحاب تشبيهًا نديًا بالندى والغطاء في زمهرير الشتاء.
في (أشواك وورود) ما أجمل هذه الفكر الناطحة وإن كانت لها مدخلات ومفاجآت مذهلة فهي تُذهب البسمة وغالبًا ما تقسم المرء نصفين كما تفعل بشاعرنا (نصف يتأسى/ ونصف يجاهد ليصلح ثقبًا)
الشاعر ينقل إلينا وجعًا يتراءى له ويهدد أمنه، أمواج ثائرة يخشاها وهو من يرفض أن يقول ما لا يصلح له قوله من مديح أو اطراء حتى لأميرالمؤمنين الرشيد، فهاجموه لأنه صاحب مبدأ لا يحيد عنه فقالوا: (بعض/ ثغاءات طفل وليد)
إذن الشاعر عنده مبدأ فهو شاعر لا يباع ولا يشترى وكرامته في الحق سهام تُصيب هدفها ولا تخيب ، وينقلنا لمشهد شديد الخصوصية رائع النص حين تم اتهامه بقتل من سبه فرد ردًا أسقط الرجل قتيلًا!!! ترى ماذا حملت الكلمات من طعنات وسيوف قاتلة
وكأن الشاعر أراد أن ينقلنا من جريمته فنادى صديقه ذوب المسك يُنهي بمشهد عبقري (حين وطئت قدماه الاسفلت/بحقائبه لم يهتم/وفر/فانفرط الدر)
وحينما ينطلق المرء بخلقه القويم وطريقه المستقيم يتعثر في خيبات المرار فيما حوله من براكين نفاق ومداهنة ووصولية وانتهازيةأو ما يطلق عليه_كذبا_ ذكاء ومهارة فيخبو داخله الأمل في صلاح من يحيا معهم زملاء، أصدقاء ،رفقة عمل ‘ جيران، حتى بين المحبين ترتفع أنات الأنا والنرجسية فتقتل القيم النبيلة وتتصدر المشهد عاهات تُسبي البهجة وتطلق غيلان الوجع.
الأبيات تُطلق أنات حزينة من كل مايدور في هذا الزمن معدوم الإنسانية الشاكي إلى ربه الإنسان البهلوان الذي يلعب على كل الحبال، وهو حال كثيرين اصيب الشاعر «غُدية» بعد أنينه بالهم وغادره الفرح والأحباب
يصف حالة التيه والغربة في سيره ملتاعًا مأخوذًا بالحسرة ممزوجًا بالذهول: (ذاهلة مني الخطوات فوق أرصفة الطرقات)
يبحث عن رفيق نديم لا يعرف المراوغة، ونسي الشاعر أن أصل الشعر عدم الصدق وإسدال الخيال والابتداع والكذب في الشعر موشى بالمحال محكوم بالخيال ! رغم ذلك فالشاعر في لحظاته هذه كان يبحث عن المستحيل، فضربت ابياته على أوتار الإنسانية البائسة من المراوغة والخداع وفنون النفاق ومست رؤيته أنفس اتعبها الزيف والنفاق
قصائده الشعرية نصوصًا أدبية تتناول دورس الحياة بحكمة، وحب وإنسانية، وبصيرة. لغة سلسة تتخللها كلمة شطح بها الشاعر غير مدرجة على قوائم الكلمات المعروفة في قواميس حياتنا العادية، الشاعر “غُدية” يضعنا أمام مرٱةالبلاغة والحكمة والتفكر والتأمل في صور الحياة تلك الصور البليغة استخدمها الشاعر فأضافت بعدًا ورونقًا في أغاريد تلألات في أحلى ترنيماتها بالحسن والبهاء أضاءت غالبية النصوص مما يتردد صداه وأنينه في نفس وعقل القاريء كجرس انذار او لقطة حب مهداة، أو وهدة ضياع، أو غلظة حيرة !
وللشوق ضجيج يُسعد ويُثري أوقات المشتاق على جمر اللقاء
يُشبه الشاعر الشوق بالطيور (ياطيور الشوق حيث يبزع الضياء)
ويتلاقى الرجاء بالرجاء، ما أجمله من معنى يُمسك بسميره ويقتسمان أنشودة الوصل و اللقاء
يعود الشاعر من وهج حلمه بدون الحبيب لحقيقة أنه غير موجود بجانبه، فيحث الطيور على الذهاب للحبيب والعودة به مكبلًا بالأشواق!
فاض نهر حنينه للمحبوب وتدور معه المعاني حتى تصل للقمة من بعاد محبوبه في حروف تعزف وتتغنى بعذاب وعذوبة انتظار اللقاء
ويختم أمنياته بإخبارنا التشتت الذي عاشه بعيدًا عن المحبوب ووجع فقده لعودة روحه والوئام.
الديوان رسائل غناء وشدو رنان به رسائل وعظية تتعدى الزمان والمكان.